شعار قسم مدونات

ناصر الزفزافي.. نموذج للإنسان الذي يجب أن نَكُونَه

مدونات - الزفزافي

الأزمة الحقيقية في مجتمعاتنا المتخلفة حيث الاستبداد هو أساس الحكم هي أزمة ثقة بالدرجة الأولى، فالمحكوم دائما ما يتوجس خيفة من الحاكم ويتقي شر غطرسته، والحاكم بدوره لا يستسيغ شيئا اسمه "حرية"، حتى وإن كانت مقترنة بالصمت أو الحياد وذلك لما تشكله ماَلات توظيفها من خطورة على عرشه. وبهذا يكون البند الأساسي من العقد الاجتماعي الذين يجمع بين الطرفان ينص مبدئياً على الخوف الثنائي القطبية. عندما تنعدم ثقة المواطن في الدولة ومؤسساتها، ويستأسد الشك في علاقة الدولة بهذا المواطن، هنا تفتَحُ أبواب لعدة احتمالات مجهولة في وجه التغيرات والتحولات التي سبقتها أزمنة من الثبات والاستقرار للأوضاع الاجتماعية والسياسية.

 

كما أن الضغط يولد الانفجار في قوانين الفيزياء، فكذلك القمع والاستبداد السياسي يولدان تمرّداً مجتمعيا يقلب الموازين ويزحزح طبقات المجتمع المختلفة. ومثالاً على هذا التمرد، ذاك الذي شهدته منطقة بكاملها تُدعى "الريف" وتوجد شمالي المغرب أواخر سنة 2016. أفرزت هذه الصرخة التي سمع صداها العالم برمّته وأثارت جدلاً واسعا داخل وخارج المغرب حيث أعادت طرح مجموعة من القضايا إلى الواجهة من قبيل الوضع الحقيقي لمستوى احترام حقوق الانسان والحريات العامة التي ما فتئ الإعلام المغربي يتغنى بها في المحافل الدولية. حيث كشفت للعالم زيف هذه الادعاءات وضعف صحتها.

 

و من مزايا هذه الانتفاضة التلقائية التي تبنت السلمية كمبدأ مقدس لأشكالها الاحتجاجية، أنها أخرجت لنا نماذج نادرة في التمرد ضد الطغيان والفساد، تعرف ثمن تمردها هذا ومستعدّة لأدائه في أي لحظة. لكنها أصرت على إثبات وجودها عبر فعل التمرّد. فإن كان ثمة معيارٌ نَقيس بواسطته مدى صحة مجتمعٍ ما فلن نجد معيارا أبلغ من فعل التمرد.

 

هؤلاء الإستثنائيون من المصلحين والفلاسفة والمتمردين على السائد أتوا لتصحيح المسارات، لتغيير الفهوم، لتنوير الأذهان والعقول، لإيقاظ الإنسان النائم فينا، لندرك قيمة وجودنا وكينونتنا

أن تقف صامداً هكذا عارياً في وجه الظلمة والطغاة، أن تُرعِب نفوس المستبدّين، أن تُعكِّرَ أمزجتهم، أن تحترقَ وتُشِعَّ وسط هذا الظلام الكثيف نور الحياة، أن تصدح بصوت الحق في زمن النفاق والتملق والمجاملات وتجارة الضمائر، أن تدوس على أشباح الخوف والجبن والصمت، أن تضرب بعرض الحائط كل مسوغات العبودية ومبررات الاضطهاد، أن تحمل على عاتقك قضية استرداد القيم الإنسانية المغتصَبة وهمّ ردّ الاعتبار لكينونة الفرد داخل مجتمعه، أن تتنازل عن حريتك من أجل حرية الاَخرين، أن تقضي بعضا من سنوات حياتك في السجون، أن تُقمَعَ ظلماً، أن يُسْخَرَ بك على مرأىً من الناس، أن تُسلبَ وطنيّتَكَ وكرامتَك، أن تتعرّضَ لكل أنواع العذابات الجسدية والنفسية انتقاماً من تشبثكَ بمواقفك ومبادئِك، أن تواجِهَ بطُهرِكَ عصابةً من الكذَبة والمشهِّرين ومسوقِي الأوهام ومزيِّفي الحقائق، أن تسبحَ عكس التيار، أن تجري ريحُكَ بما لا يشتهي سُفنهم، أن تكون الاستثناء الذي يهز كيان المعتاد، أن تعيد من جديد إحياء الأمل المفقود، أن تغيرَ مسار الوقائع، أن تكتب التاريخ بقلم الصدقِ..

 

الأوصاف اليوتوبية التي ذكرتها للتّو، غالباً ما تكون متوفرة في أبطال نسمع عنهم في قصص أسطورية تحكيها لنا جداتُنا عند خلودنا للنوم ونحن أطفالا فننبهر ونتمنى لو التقينا بهم وجعلناهم أصدقاءً لنا، أو نقرؤها في روايات أدبية أو نشاهدها في أعمال مسرحية وسنيمائية. لكن ومع ذلك، فقد مروا على التاريخ الإنساني أبطالاً حقيقيين على غرار الأبطال الذين ظلوا رهيني خيال جداتنا وصفحات الروايات وخشبات المسرح ودور السينما وإن كانوا قلّة منزورة قد لا تتعدى المئات من بين المليارات الكثيرة التي جاءت إلى هذا العالم.

 

هؤلاء الإستثنائيون من المصلحين والفلاسفة والمتمردين على السائد أتوا لتصحيح المسارات، لتغيير الفهوم، لتنوير الأذهان والعقول، لإيقاظ الإنسان النائم فينا، لندرك قيمة وجودنا وكينونتنا. وسلاحهم في ذلك العلم والشجاعة ووضوح الرؤية. ناصر الزفزافي، واحد منهم، ذاك الشاب البطل الذي ولد في كنف الفقر والحاجة، أبى إلا أن يحشر إسمه في مسودة التاريخ، يمثل الإنسان النموذج والقدوة التي لن تستوفي كل عبارات المدح حسْنَ صنيعِه ولن تستطيع مقالات الصحف على كثرتها حصد تضحياته الجمة التي أبهر بها أعداءه قبل أصدقائه ومعذبيه قبل معجبيه.

 
كلُّنا يحلم بامتلاك ولو جزء يسير من قوة شخصيته، من شجاعته، من فصاحة حديثه، من تواضعه، … لكن العجز من فرط الخوف والرهبة اللذان يتملكان قلوبنا يحول بيننا وبين امتلاكها، لذلك تجد بعضاً ممّن فسدت ضمائرهم يلعنونه ليل نهار، سراً وعلانية يحسدونه على حبّ الناس وتقديرهم له ويتشفوّن مما يلاقيه يكابده من معاناة داخل أسوار السجن.. أمّا النابهون فما زالوا يتعلمون من المدرسة الناصرية دروساً في قيم النبل الإنسانية بكل فخر واعتزاز ويسعَونَ ليكونُونَه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.