شعار قسم مدونات

ضيفٌ ثقيل الظل!

مدونات - رجل في السرير

انتصف الليل، هذا الوقت هو بداية اليوم عند البعض، ونهايته عند آخرين، لا أحد يفكر في زيارتك في هذا الوقت المتأخر، -على الرغم من أن الناس لم تعد تلتفت لهذه الأخلاقيات-، لكن تبقى لديهم ما يحفظ ماء الوجه -ولو قليلًا-، مالا تضعه أنت في الحسبان أن يأتيك زائرٌ لا ترغب بزيارته، لا لأنه غريب، ولكنك تعرفه حق المعرفة!، هذه عادته معك؛ يزورك دون سابق إنذار، يحط بكامل أثقاله على قلبك الممتلئ أصلًا من فرط أثقاله.

 

لا يسألك قبل أن يقيم، ولا يطلب الإذن بالمكوث حتى يفرغ شحنته داخلك؛ ضيفٌ وقح! لا يشعر بخطيئته وقد جاء في هذا الوقت المتأخر من الليل؛ استغل وحدتك وشرودك، انتهز فرصة غيابك عن نفسك وحاصرك!
حنين..
إلى من؟
غائب!
مسافر!
ميت!؟
كلهم في عداد الأموات على أية حال، لا أحد هنا يربت على كتفك، لا أحد يواسيك بكلماته، لا أحد يُهدئك بنظرةٍ منه، لا أحد يبثك الطمأنينة حين يشد على يديك.

 

هذا الضيف الثقيل رغم وقاحته لا يزال على عهده بك، لا ينقطع عن زيارتك -كما انقطع البعض عنك-، يأتيك في سكون الليل، وقد خيم الظلام، وخفتت الأصوات، يأتي بعد أن ينهي جولاته وسجالاته ليبدأ تحقيقًا غير آدميٍ مع ذاكرتك المسكينة، ويا للأسف حتى ذاكرتك تتآمر عليك، لا تتذكر شيئًا من مقرراتك الدراسية مثلًا، أو معاني الكلمات أو النصوص التي تحبها -كما هو مأمولٌ منها-، لكنها تتذكر وبشكل جيدٍ جدًا كل شيء لا يجعلك تقضي ليلتك بخير، تتذكر ملاعب صباك، جرائمك الصغيرة، تتذكر وجوههم وكأنها ماثلةٌ أمامك، التفاتتهم الأخيرة، درجة حرارة أصابعهم حين أفلتتها، آخر كلمة سمعتها وآخر حرفٍ قرأته، كأن كل عضوٍ فيك له ذاكرةٌ خاصةٌ به؛ عيناك، أنفك، أذنك، لسانك، يداك!

 

كل حواسك تشترك في تمثيل الجريمة أمامك بكل وقاحة! ولا يسعك هنا إلا قول الشاعر:

خطرات ذكرك تستثير مودتي فأحس منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابةٌ فكأن أعضائي خلقن قلوبا

 

يتآمر قلبك عليك ويعيد عزف نبضاته بنفس السرعة، وبنفس القوة، تكاد تختنق!
تحس بحرارة الدمع وتَزَاحُمه في مآقيك، لكن لا دمع!
هجرتك دموعك، نضب معينها، على أي شيء تبكِ؟
لا شيء يستحق، لا تنتظر شيئًا ولم تعد تفاجئك المفاجآت، أنت في صراعٍ حقيقي، لكنه بينك وبينك!
انظر في المرآة، نعم هذا الذي يصارعك، هذا صديقك، كن لطيفًا معه عسى أن يرفق بك ويدعك دون زيارةٍ جديدة. لكن هل فكرت لماذا يبدو هذا الصديق مخلصًا ووفيًا لك؟، منطقيًا هو لا يؤخر موعده أبدًا حتى بدأت أنت بإعداد العدة للقائه وتوفير المناخ الملائم لقضاء ليلة طويلة بصحبة الحنين اللعين.

 

كيف أغفلت عيناك أن الماثل أمامك ليس أنت، وإنما هو شخص آخر يمسك بيده قاطعًا معدنيًا يقتات به على أوجاعك، يرتكب أفعاله بدعوى الحب ويقتلك في كل يومٍ ألف مرة بنفس الأفعال التي أبديت توجعك منها، نفسك على الرغم من أنها قد تؤذيك؛ لكنها لا تؤذيك إلا بقدر ما آذيتها أنت، هذا ما قدمت يداك والعاقبة لا تُراعي المغفلين!

 

قلبك وديعةٌ لديك وأنت عليه مؤتمن، فحاذر وخيانة الأمانة؛ بأن تترك بابه مفتوحًا على مصراعيه، يُغلق على أول مارٍ حتى يفسد فيه ما شاء له أن يفسد، ثم يرحل تاركًا وراءه الكثير من الركام والأطلال التي تكفيك عمرًا فوق عمرك!

 

لو كانت الهموم تقاس بالأعمار لعاش الناس أعمارهم مضاعفة، لكنها من شدة وطأتها تشطر الأعمار وتبددها، أمسك عليك قلبك أن تترك فيه ما يعجل خرابه، وتذكر مقولة الحسن البصري: 

"أَحِبُّوا هَوْنًا، وَأَبْغِضُوا هَوْنًا، فَقَدْ أَفْرَطَ أَقْوَامٌ فِي حُبِّ أَقْوَامٍ فَهَلَكُوا، وَأَفْرَطَ أَقْوَامٌ فِي بُغْضِ أَقْوَامٍ فَهَلَكُوا"

  

لا تحسب أن الحنين هو المتهم الأول، الليل يتواطأ معه ضدك، تسهر ظنًا منك أنك تقاوم الوحدة والأفكار السيئة، ونسيت أن السهر هو مبعث كل هذه الهموم، لكنك لا تعرف هال الليل.. يُغويك بدلاله كامرأة جميلة -هكذا تبدو لك- لكنها خبيثة، تستدرجك من حيث لا تدري لا لأنها تحبك، ولا لتجعلك تقع في حبها لأنك واقع بالفعل، إنها تستدرجك لتوقع بك في شباكها، حيث لا مهرب ولا فرار، تعذبك حد البكاء ولا بكاء، تحاصرك حد الصراخ ولا صراخ!
تعاتبك، وتؤنبك، وتذكرك بكل ما ترجو نسيانه، ومع هذا تُحبها!

 

إنه الليل الجميل..
مسكينٌ من نعته بالبؤس لأنه وجد البؤس في كلماتي..
هل شعرت بقلبك يحلِّق جوار النجوم من قبل؟
هذا حالي مع الليل..
في هذه الليلة بالذات..
اعترف لي الليل بحبه..
وأفشى لي سره..
وعبرّ بمكنون صدره..
الليل صديقٌ وفيٌ لا يخون..
يحتضن خيباتك..
تساؤلاتك..
صلواتك الخاشعة..
تضرعك الذليل..
أسرارك الحبيسة..
تقلباتك العجيبة..
الليل لا يلومك حين تبوح..
لا يوبخك حين تخطئ..
هدوءه يطمئنك..
وسكونه يبعث فيك السلام..
تغزل العشاق في المرأة لجمالها..
شبهوها بالقمر..
وهل يكتمل جمال القمر إلا بالليل..
وهل يكون القمر بلا ليل..
الليل وآهٍ منه..
يذكرني بامرأة لعوب..
تداعبك دون أن تنال منها..
تمنحك الأمل واليأس..
الأمن والخوف..
الهلاك والنجاة..
الليل تتلمذ على يد شهرزاد..
حين يدركها الصباح..
فتسكت عن الكلام المباح..
الليل يهيؤك للفجر الذي تنام فيه..
على أمل ليلٍ جديد..

عزيزي الحنين: شكرًا لزيارتك، ولا عزاء لمرافقيك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.