شعار قسم مدونات

"الـلا المألوف" في مسيرات الغزيين الكبرى

Palestinian demonstrators gather at the Israel-Gaza border during clashes with Israeli troops at a protest demanding the right to return to their homeland, east of Gaza City April 6, 2018. REUTERS/Mohammed Salem

طوال فترة الكفاح الوطني الفلسطيني قبل وبعد نكبة العام 1948 تعددت وسائل وأشكال النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي بين مسلحة وشعبية وقانونية ودبلوماسية وغيرها، وتعددت بالتالي آراء الباحثين والعامة حولها. البعض يرى أن شكلا نضاليا واحدا، إما مسلحا أو شعبيا أو دبلوماسيا أو قانونيا أو غيرها هو الأفضل لنيل الحقوق كاملة أو مجتزأة. فهناك من يعتبر النضال المسلح طويل الأمد خيارا وحيدا لتحرير كل فلسطين أو على الأقل رادعا وحيدا للاحتلال عن أي فعل ضد الفلسطينيين، وينكر وجود أي جدوى من بقية أشكال النضال معتبرا إياها "محاولات نضالية" تخبو حال بروز وحشية العدو الإسرائيلي.
 
وفي المقابل ترى فئة أخرى أن النضال المسلح أكبر من قدرة الفلسطينيين على التحمل ويقودهم للبحث عن بيئات عربية وإسلامية مواتية تقنع المجتم الدولي به وتبحث عن مناخات ملائمة، ويفضي بالمحصلة لارتهانهم إلى قوى إقليمية ودولية وأجندات خارجية مقابل الحفاظ على بعض السلاح وحصر الفعل النضالي بالفصائل وعزل فئات الشعب عن دائرة التأثير، إضافة لخسارة أي موقف داعم من شعوب ودول العالم حال استخدام "العنف". وهناك من يرى في النضال الشعبي الوسيلة الوحيدة والأسلم باعتباره يعتمد على إمكانيات الشعب الحقيقية بعيدا عن خيالات الفصائل وتبعاتها ورؤاها المبالغ بها، وبما يجنبه فواتير الدم الباهظة التي يتسبب بها النضال المسلح عندما يخلق الذريعة أمام الاحتلال لاستخدام القوة المفرطة.
 

غزة التي ألهبت من جباليا انتفاضة الحجارة في العام 1987 وامتدت منها لتشعل كل الأرض الفلسطينية، تملك ما يكفي من عناصر القوة لبث الروح في قلوب الفلسطينيين المستفرد بهم من قبل الجميع

وتدعو الفئة السابقة إلى ترشيد النضال الشعبي السلمي وتنظيمه لتقليل أعداد الشهداء والجرحى ولتحقيق نتائج مجدية للقضية، ويتم الترشيد بمشاركة جميع فئات الشعب خاصة المثقفين وأصحاب الفكر. وترى تلك الفئة بالمجمل أن النضال السلمي الشعبي يحرج الاحتلال ويثمر بكسب التعاطف العالمي وإحداث قضية رأي عام على مستوى الشعوب والحكومات والمنظمات الأممية تتوج بإنجازات حقيقية على الأرض لمصلحة الشعب الفلسطيني. ولا ينكر وجود معارضين لهذا الشكل من النضال حيث يعتبرونه ذا نتائج بطيئة وغير مضمونة ولا تتناسب مع قدرات العدو المتطورة والمتسارعة.
 
كما يرى آخرون في النضالات القانونية التي تنتهجها حركة المقاطعة "بي دي أس" والخطوات الداعية لملاحقة قادة الاحتلال في المحاكم الدولية إضافة للنضال الدبلوماسي عبر قنوات الأمم المتحدة وكسب التمثيل الفلسطيني في منظماتها، طريقة ناجعة لإضعاف الكيان من دون إراقة قطرة دم فلسطينية واحدة، وتؤدي برأيهم إلى تجريده من عناصر قوته الخارجية ما قد يؤلب الداخل الإسرائيلي على بعضه ويضعف الكيان ككل. وربما تبقى الفئة الأكثر واقعية تلك التي تعتبر أشكال النضال كتلة واحدة لا يفترض إسقاط أي منها ولا سيما الكفاح المسلح، باعتبار أن الاحتلال يحتاج إلى قوة ردع دائمة وإن كانت بقدرات محدودة لإشعاره بالقلق، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة استخدام الشكل الأنسب للظرف الأنسب.
 
وهناك من هم أبسط بكثير فلا يهمهم قراءة المنحنيات التاريخية للنضال الفلسطيني، بل تدفعهم الفطرة وحدها للتعاطف مع أبناء جلدتهم بغض النظر عن وسيلة النضال المستخدمة ضد الاحتلال. ولا يمكن الجزم إن كانت هناك رؤى أوسع وأكثر حول أشكال النضال فهذا وارد، فالبعض يدعو إلى إسقاط تجارب الثورات ونضالات الشعوب الأخرى (جنوب أفريقيا، فيتنام، كوبا، أيرلندا، أستكتلندا… إلخ) على تجربة الفلسطينيين وقضيتهم بشكل حرفي أو نسبي، والبعض يدعو إلى اتخاذ العمليات الفردية (دهس، طعن، إطلاق نار) التي سيطرت على المشهد ضمن ما عرف بـ "انتفاضة القدس" خلال الفترة بين 2014 – 2017 نهجا وسطيا بين المسلح الشامل والشعبي الشامل.
 
كما يتوارد ذكر أنواع أخرى من النضال كالثقافي والتراثي والاجتماعي والإعلامي، وتتوارد معها قراءات وتحليلات عديدة حول أشكال النضال السابقة كلها، ومن يدري لعل قراءة جديدة أو مرحلة مختلفة تغير شيئا في الرؤى أو تكرر شيئا أو تخلق شيئا، لكن يبقى الحتمي أن كل الاختلافات السابقة مشروعة ويصح تأكيدها أو نفيها ضمن السياق البنّاء للنقاش والطرح والتطبيق الوطني.

  undefined

 

وفي زحمة الجدل القائم حول أساليب النضال الفلسطيني، تأتي مسيرات العودة الكبرى على حدود قطاع غزة مع الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1948، لتكون إسقاطا فعليا لذاك الحديث الكلاسيكي. ويسرد ضمن السياق التاريخي للنضال الفلسطينية ومآلاته كل صنف واحتمالية عدم تحقيقه النتائج المرجوة في ظل اختلال ميزان القوة لمصلحة الاحتلال وغياب الإرادة الدولية الداعمة لتمكين حقوق الشعب الفلسطيني وعدم السماح له بجني ثمار نضالية حقيقية أسوة بشعوب أخرى. وفي تجربة مسيرات الغزيين فإن طابعا مختلفا تغفله الأوساط الفلسطينية رغم وجوب الوقوف عندهه باعتباره إضافة جديدة للإحاطة السابقة بأشكال النضال الوطني. ولعل ذاك المختلف أو إن صحت تسميته "اللا المألوف" هو أن أهالي قطاع غزة استطاعوا تفجير مفاجأة من العيار الثقيل حين حولوا نقاط التماس العسكرية المعدة إسرائيليا للاشتباك مع المقاومة الفلسطينية المسلحة ولحصار القطاع وعزل فلسطينييه عن أي احتكاك بشري مع الداخل المحتل إلى نقاط تجمهر عائلي ومركز هبّة شعبية وقودها إطارات الكاوشوك والحجارة ورايتها الوحيدة العلم الفلسطيني.

 

والجدير بالملاحظة أن معظم من يحلل وفق المنطق الطبيعي يصعب عليه توقع أن تتحول حدود قطاع غزة المحاصر كجزيرة معزولة وسط المحيط إلى نواة لفعل شعبي مقاوم واسع الأطياف طويل النفس ينوب عن الضفة والقدس والداخل الفلسطيني رغم وجود مبررات أكبر لدى الثالوث الأخير لإشعال هكذا مواجهة باعتباره واقعا في الاحتكاك اليومي مع المحتل وهو ما لا يتوفر في غزة منذ انسحاب جيش الاحتلال ومستوطنيه في العام 2005، والكلام لا يقصد به أي مزايدات على أي مجموعة فلسطينية قدمت ما قدمت من تضحيات بل هو طرح في سياقه التحليلي.
 
ولم يتنبأ كثيرون بأن المحاصرين يمكنهم أن يخلقوا حدثا جديدا بلا مقدمات أو دوافع آنية متحركة للفت الأنظار إلى معاناتهم القديمة الجديدة تحت الحصار والعدوان الإسرائيلي المتكرر منذ 11 عاما، واستدعاء قضيتهم بكل ما فيها من رموز ومناسبات وطنية (يوم الأرض وذكرى النكبة.. العلم، الكوفية الحجر، الإطار، مفتاح العودة)، ليثبتوا أن انتزاع المبادرة ممكن حتى من قبل الطرف الأضعف حين يكون صاحب حق، وأن القضية قابلة للإعادة إلى نقطة الصفر التي بدأت منها قبل 70 عاما في أية لحظة بعد رفع أصحابها الكلفة عن كل التغيرات الطارئة وتحجيمهم أحاديث الصفقات المعلنة والمبطنة الهادفة لتصفيتها. غير المألوف فعلا أن يتمكن شعب أرهقه الانقسام ومزقت التجاذبات السياسية أطرافه الانسحاب من المشهد السياسي الفلسطيني البائس إلى الحقيقة الأولى بطريقة تبرز عواطف أبنائه وتعطشهم للتضحية في سبيل أصول القضية لا فروعها.

 
وخلاصة القول أن غزة التي ألهبت من جباليا انتفاضة الحجارة في العام 1987 وامتدت منها لتشعل كل الأرض الفلسطينية، تملك ما يكفي من عناصر القوة لبث الروح في قلوب الفلسطينيين المستفرد بهم من قبل الجميع ولمخاطبة العالم ونيل تعاطفه وتضامنه بلغات يفهمها الجميع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.