شعار قسم مدونات

وَرَحُبَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا ضَاقَتْ

Palestinians evacuate mortally wounded Palestinian journalist Yasser Murtaja, 31, during clashes with Israeli troops at the Israel-Gaza border, in the southern Gaza Strip April 6, 2018. Picture taken April 6, 2018. REUTERS/Ibraheem Abu Mustafa TPX IMAGES OF THE DAY

"يكفي 70 سنة وأنا لاجئ".. كان هذا لسان حال كل فلسطيني شارك في مسيرة العودة، لأنها كانت بمثابة ضوء في عتمة الحصار، وإلى جانب بصيص الأمل الذي رآه فيها، يدور في ذهنه سؤال: "هل ستنجح مسيرة العودة، أم سيخذلنا العرب كما خذولنا مراتٍ سابقة؟". ربما من يرى المشهد من بعيد، ولا يشعر بمرارة الحرمان وغصة الحصار، يظنّ أن أهل غزة واهمون، أو بلفظ أبسط "غلابة بيفكروا حيرجعوا أرضهم بشوية مسيرات".

 

أهل غزة ليسوا سُذَّجًا إلى هذا الحدّ، هم يعرفون أنهم لن يعودوا إلى أراضيهم في يومٍ وليلة، لكنهم حفظوا جيدًا الدرس الذي تعلموه من الصهاينة، فهم سيتبعون نظام "الدحرجة"، كما اتبعه كل من شارك في هدم القضية الفلسطينية وأعطى لليهود حقًا في فلسطين. وها هم اليوم يسقون الصهاينة من نفس الكأس، نعم نفس الكأس، لكن بطريقة لا يقدر عليها إلا الصمود الفلسطيني، وهنا تجلى الإبداع في فكرة "خيمة العودة"، وقد نبعت في ظل الحصار الذي كاد يحبس الأنفاس.

 

شتان بين خيمة اللجوء وخيمة العودة، بسبب اللجوء كان الفلسطيني يبكى على أرضه التي تركها، و"حاكورته" التي سيذبل زرعها بعد أن رواه بعرقه لسنوات، خيمة اللجوء أبكت الفلسطينية على مصاغها، تلك المصاغ التي دفنتها تحت شجرة الزيتون المباركة، لتُخفيها إلى حين عودتها، فقد خرجت من بيتها بعدما قيل لها إنها ستعود بعد أيام قليلة.

 

ربما من أهم ما تحقق بانطلاق مسيرة العودة، اتساع مساحة قطاع غزة، فالاقتراب من حدوده كان شبه مستحيل، ويكاد لا يفعل ذلك إلا مُزارعٌ بسيط يعرّض نفسه للخطر ليجني ثماره في تلك المنطقة

عام 1948، لم يُصدّق الفلسطينيون ما حلّ بهم، ولم يُخيَّل لهم أن الخيام ستكون بيوتًا لهم، وأن قماشها مع الوقت سيتحول إلى بنايات من أحجار. ولكن سرعان ما أصبح هذا اللجوء حقيقة يعيشها الفلسطيني، وأصبح المحظوظ منهم هو من يحصل على "كرت التموين" بسرعة، وصار اللاجئ يفكّر في توسيع حدود خيمته ليتأقلم مع واقعه الجديد، مواسيًا نفسه بالعبارة الشهيرة: "هون ولّا هون.. مهي كلها فلسطين".

لم يقبل الفلسطيني بهذا الحال، فقاوم العدو بطرقٍ شتّى، واليوم في 2018، بعد 70 سنة على النكبة، كانت مسيرة العودة، التي ظنّ البعض أنها ليست إلا يومًا يُنفّس فيه الفلسطينيون عن غضبهم، ويوجّهون فيه حجارتهم إلى جنود الاحتلال على الحدود الشرقية لقطاع غزة، ويحرقون فيه "الكاوتشوك"، ثم يعودون إلى بيوتهم دون أن يصنعوا فارقًا.
 
في اليوم الأول لبدء فعالياتها، اصطفى الله شهداء، فأدركت لأول مرة معنى الهتاف "على القدس رايحين شهداء بالملايين"، عرفت أن الشهداء هم أصل الحكاية، وأن ارتقاءهم هو ما يمهد الطريق إلى القدس، وأننا كلما ضحينا أكثر يكون طريقنا ممهدًا أكثر.
 
وربما من أهم ما تحقق بانطلاق مسيرة العودة، اتساع مساحة قطاع غزة، فالاقتراب من حدوده كان شبه مستحيل، ويكاد لا يفعل ذلك إلا مُزارعٌ بسيط يعرّض نفسه للخطر ليجني ثماره في تلك المنطقة، أما اليوم المشهد مختلفٌ تماما، جديدٌ على الفلسطينيين، فمئات الآلاف انطلقوا نحو تلك الأراضي ليتمتعوا بيوم جميل مفعم بالعزة والكرامة.

 

undefined

  

من يرى الجموع، يُخيَّل له أن الأمر لا يعدو كونه رحلة ترفيهية، فالابتسامة تعلو شفاه المشاركين الذين يمارسون حياتهم كما لو كانوا في بيوتهم. رأيتُ بأم عيني نساءً يتفنن في صنع أصناف الطعام، منهن من أنهت إعداده في بيتها، ومنهن من أصرت على طهوه في الخيمة ليكون بـ"رائحة البلاد". رأيتُ نساء منهمكاتٍ في إنتاج مشغولات مزينة بالتطريز التراثي، وأخريات يستعدن "أيام البلاد" بالقصص وبالأغاني التراثية، ومنهن من ارتدت "الثوب الفلاحي" ورددت بكل فخر: "هذا ثوب أصلي، ورثته عن جدتي".
 
رأيتُ الخوف وقد تبدد من قلب الصغير قبل الكبير، الكل يشعر بحنينٍ لبلادنا المسلوبة، الجميع يحقد على سورٍ مصنوع من أسلاك بائسة يفصل بيننا وبين أراضينا، يقف خلفه جندي جبان يتحصن بمدرعته، بينما فتاة ترهبه بغرس العلم الفلسطيني، فيباغتها برصاصةٍ ليردع الحشود، لكن هيهات يا محتل، فإذا ما اخترقت رصاصة جسد أحد المشاركين في المسيرة، ينقله الآخرون بعيدا لإسعافه، وسرعان ما يعودون إلى أماكنهم ليغيظوا المحتل بحراكهم السلمي، ولسان حالهم "لن ترهبنا رصاصاتكم فصدورنا لها وعاء".
 
ويتجلى جمال الصورة في امرأة في بداية العقد الثامن من عمرها، تقدم النصح لشابٍ، قائلة: "إذا استنشقت غازًا مسيلًا للدموع، أمسك بهذه"، وتشير لبصلة في يدها، فيردّ الشاب: "أعطيني إياها يا جدتي"، فتردّ بلهجتها الفلسطينية الأصيلة: "لا… أنا بدي أهوّد"، أي أنها ستتجه نحو الحدود، وستحتفظ بالبصلة لتقاوم الغاز حتى تكمل مسيرة العودة، فلم يتبقَى في عمرها الكثير وتريد أن يحتضن ثرى بلادها جسدها النحيل.

 

أختم المشهد بقول طفل لم يتجاوز الستة أعوام، لخّص المشهد بعبارة بريئة بليغة: "لاعبنا اليهود اليوم الشريدة"، وهي لعبة يلاحق فيها الأطفال بعضهم البعض، وهذا يعكس مدى هوان الجندي الصهيوني حتى عند الأطفال. آن لتلك اللعبة أن تنتهي، وبداية نهايتها هي مسيرة العودة، هذا الطفل يجب أن يعود لبلدته الأصلية (المسمية، حيفا، يافا، عسقلان، الجورة يبنا، وكل فلسطين)، وحينها ينشد أنشودته المفضلة:

موطني
الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك هل أراك سالما منعما وغانما مكرما

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.