شعار قسم مدونات

اليقظة.. كقاعدة انطلاق لله تعالي

blogs دعاء

لنتخيل أنك عدت من عملك متأخراً بعد أن نام الجميع فغيرت ملابسك وأعددت لنفسك بعض الطعام ثم نمت دون أن تنتبه لأسطوانة الغاز التي نمت دون أن تغلقها جيداً. نمت ثم استيقظت فجأة حينما خنقتك رائحة الغاز التي ملئت أرجاء المنزل -فتقريبا أسطوانة الغاز أفرغت كل ما فيه- هذه اللحظة حين تستيقظ ما هو الشعور الذي سيمر بك؟ ستسرع مذعوراً للسيطرة على الأمر قبل أن يخرج عن نطاقها بإغلاق أسطوانة الغاز وإيقاظ الزوجة والأولاد وإخراجهم من المنزل سريعاً وفتح كل النوافذ وتحذير الجميع من إشعال أي لهب لأن ذلك ستكون نتيجته مأساوية جداً جداً.

 

ما هو الشعور الذي سيمر بك حينما تتخيل أنك ربما في أقل من لحظة قد تموت أنت وزوجتك وأولادك غير البيت الذي سيصبح كومة من تراب إضافة للخراب الذي قد يمتد لبيت أهلك فضلاً عن جيرانك؟ أعتقد أنه سيمر بك كم مشاعر رهيبة من الانزعاج والذعر والفزع والهلع والاضطراب والقلق حينما تستيقظ من نومك على هذه المصيبة أو بعبارة أخرى حينما تفوق من غفلتك التي كانت من الممكن أن تؤدي لكارثة مروعة. فأتخيلك وأنت تجري كالمجنون للسيطرة على الأمر المحتدم الذي تسببت فيه دون قصد منك.

 

هذه المشاعر التي ستمر بأي أحد منا وضع في الموقف السابق هي نفس المشاعر التي ستمر بأي عبد منا رزقه الله اليقظة؛ حيث أن اليقظة رزق من الله تعالى ويتجلى ذلك في الحديث الذي سمعه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مر رجل ممن كان قبلكم من بني اسرائيل بجمجمة فنظر إليها وقال: اللهم أنت أنت وأنا أنا، أنت العواد بالمغفرة وأنا العواد بالذنوب فاغفر لي وخر علي جبهته ساجداً فنودي: أنت العواد بالذنوب وأنا العواد بالمغفرة قد غفرت لك فرفع رأسه وغفر الله له". فهنا الرجل كان مقيم على المعصية مستقر على الغفلة ثم سافر لحاجة يقضيها مثلنا تماماً فمر بهذه الجمجمة التي أيقظت قلبه وألهبت وجدانه والتي عليها تغير مسار حياته. فإذن اليقظة رزق من الله تعالى لأنه عليها تقوم باقي المقامات والأحوال التي لم يكن للعبد أن يصل إليها دون هذه اليقظة لذا فمن يرد الله به خيراً يرزقه إياها وييسر له أسبابها.
 

يغفل العبد أولاً عن ذنوبه الماضية والمقيم عليها فينساها كأن الله خرج من حساباته. ويغفل ثانياً: عن عمره الذي يُستدرج فيه والأيام التي تمر تلو الأخرى وهو لا يزداد من النار إلا قرباً ومن الجنة إلا بعداً

فما اليقظة إذا؟ اليقظة باختصار كما عرفها الإمام ابن القيم في كتابه "مدارج السالكين" -ذلك الكتاب الأكثر من رائع والذي أري أنه لا يجب أن يخلو بيت منه ولا يمر علي الواحد منا مدة إلا ويطالع المقامات والأحوال التي ذكرها الأمام فيه ورتبها ليحاول بعد ذلك التطبيق الذي لن يكون سهلا علي الإطلاق لأن التعايش الحقيقي لتك المقامات والأحوال التي ذكرها الأمام بن القيم عليه رحمة الله تعالي تجتاح لوقت كبير وجهاد عظيم للنفس- هي: "انزعاج القلب لروعه الانتباه من رقدة الغافلين" وهذا الانزعاج له قدره وخطره لأنه يعين على السلوك أيَّما إعانة لهذا فإن سير العبد منا لله تعالى مرتبط بشدة بهذا الانزعاج من رقدة الغافلين سرعةً وبطأً ولهذا أيضا من تمكن هذا الانزعاج من قلبه فأوقد فيه ناراً تتلظي وتتميز حزناً وألماً على ما فرط وضيع فقد أحس بالفلاح والنجاة وإلا فهو ثملاً بسكر الغفلة ضائعاً غارقاً تائهاً قد استهوته الشياطين لدروب الهلاك!

 

قد يتساءل أحدنا سؤال بسيطاً عميقاً يصب في صلب الموضوع وأصله وأساسه: لما الغفلة من الأساس؟ فالمؤمن يُعقد قلبه على أنه لم يخلق عبثاً ولن يترك هملاً أو سداً وأن في انتظاره العدالة المطلقة فور أن يقضي نحبه حيث أن السماوات والأرض قاموا بالحق وحريٌ بمن ينوء قلبه باعتقادٍ كهذا أن ينعكس ذلك على عمله وجوارحه وشعوره وإحساسه فمن أين تتكنفه هذه الغفلة العبد منا ومن أيّْ ثلمة تتسلل إليه؟! نضع أمام ذلك الاعتقاد طبعاً وغرائز وميولا وشهواتٍ تستجيش وتستنفر هذه الغرائز والميول، غير العدو اللدود الذي يخطط لإيقاع فريق منا في مصيدة الغفلة. هكذا تكمل الصورة ونعرف من أين تبدأ هذه الغفلة وتنشأ. وإذا تمكنت هذه الغفلة من قلب العبد منا أكثر من الاعتقاد السابق ينسى تدريجياً الله عز وجل؛ نعم ينساه بتضييع حقوقه وتجاوز حدوده والاجتراء على حدوده وإرسال النفس فيما تحب وتشتهي وإعطائها كل لذة تطلبها. وحين يتحقق ذلك ويكون يقابله جزاءً وفاقاً من الله بأن يُنسي ذلك العبد ما يصلحه. تلك العبارة قليلة المباني كثيرة المعاني التي أشعر أنني مهما أسهبت في توضيح معناها لن أستطيع إيفاءها ما تستحق.. ينسى العبد الله فينسيه ما يصلحه وماذا ينتظر العبد منا بعد أن يوكل الله أمره إليه ويتخلى عنه!

 

وبمرور الوقت تستمكن هذه الغفلة أكثر من القلب وتحلك ظلمتها حين تعلو غفله فوق أخرى. فيغفل العبد أولاً: عن ذنوبه الماضية والمقيم عليها فينساها ولا يعيرها اهتماماً كأنه لم يفعلها أو كأنه لا يخشى عاقبتها أو كأن الله خرج من حساباته فلم يعد يهتم للأمر من ناحيته. ويغفل ثانياً: عن عمره الذي يُستدرج فيه والأيام التي تمر تلو الأخرى وهو لا يزداد من النار إلا قرباً ومن الجنة إلا بعداً، يضيع وقته سدي وعمره هكذا، يغفل رغم أنه حين ملائكة العذاب عند الموت وحينما ينطبق القبر وظلمته عليه وحين يقف أمام الله فيقرعه للاجتراء عليه وحينما توصد أبواب النار عليه ستكون أسمي أمانيه عدة دقائق يصلي لله فيها ركعتين أو يستغفر الله فيها، رغم هذا فالوقت أرخص وأهون شيء عنده يجود به على ما لا يستحق وما فيه هلاكه وعذابه. وهاتان الغفلتان يتحدان فتكون غفلة ثالثة أشد وأعظم وهو أن ينسي حقيقة أمره وغاية وجوده، فينسي القبر والصراط والجنة والنار والموقف والسؤال والمقامع والأغلال والسندس والإستبرق، يغفل عن هذا جملةً واحدة. فما ينتظره بعد ذلك؛ نعم نسوا الله فأنساهم أنفسهم.

  undefined

 

هنا أقف حقيقةً مذهولاً أمام معاملته معنا، فرغم ما سلف من العبد من غفلة وما يترتب عليها إلا أنه لا يعاجله عز وجل بالعقوبة بل يستر عليه ويعطيه الفرصة بعد الأخرى، ويرسل له الرسائل الواحدة تلو الأخرى عَّل الغافل يستفيق عَّله يرجع. إنه لا يريد عذابنا لا يريد هلاكنا، فقط يريد النجاة لنا والفلاح، إنه ربنا خالقنا الذي هو أحن بنا من أهلينا وذوينا. لذا فهو يمهلنا لأبعد الحدود الممكنة والغير ممكنة، المعقولة والغير معقولة حتي تنفذ حججه وآياته فتكون رحمة ومغفرة تبلغ جميع الذنوب أو يكون هلاك ما بعده هلاك، هلاك ليس معه رأفة ولا رحمة فهو حين يأخذ الظالم لا يفلته.

 

هذه الآيات تتنوع من حيث نوعها وأثرها فتختلف باختلاف الغفلة واختلاف صاحبها فقد تكون موت شخص عزيز على ذلك الغافل فيذهب بقدميه ليضعه في مثواه الأخير فيري القبور في صمتها ووحشتها، أو ربما في شخص يخطفه الموت أمام عينيه بلا مقدمات ولا أسباب ظاهرة تستدعي ذلك فيوقن كم أن الجنة والنار أقرب إلى أحدنا من شراك نعليه، أو ربما في آية يسمعها من مصدر لا يعلمه تصف حاله بدقة بالغة وتخبره بسبيل الخلاص وطرقه وأسبابه، آية تعطيه سلسلة المفاتيح التي يخرج بها من زنزانته القذرة المعتمة المهلكة، أو أية تخبره بحال من هم مثله ممن أعرضوا عن النذر ولم ينتبهوا للآيات وكيف انتهى بهم الأمر في النهاية لعذاب أليم مقيم عظيم لن يطيقه لحظة أو جزءً من أجزاء تلك اللحظة، أو ربما نفسيته المدمرة ومشاعره المشتتة المبعثرة؛ إنه ذلك الشعور بالضيق واليأس والعجز شعور كأن الأرض تعلو والسماء تهبط وهو بينهما محصور يضيق عليه كل شيء.

 

هذه الآيات تعرض لنا على السواء نختلف فقط في رد فعل تجاهها وتعاملنا معها، فمنا من يستيقظ فوراً ويعود ليصلح ما قد أفسد ومنا من تستهويه الغفلة ويجذبه الخلود في الأرض حتى يرى أنه لا داعي للعودة! على النقيض من هذا يشعر المتيقظ بالشعور الذي مر به من نام وترك أسطوانة الغاز مفتوحة. نفس اللهفة والانزعاج تمر بالمتيقظ؛ فالغاز المنتشر هو ذنوبه أو بلفظ أعم غفلته وعود الثقاب الذي سيحدث كارثة هو الموت..

 

المجرم في محاكمنا ترفع الدعوي القائمة ضده بموته، أما المجرم الغافل يكون الموت بداية حسابه الحقيقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.