شعار قسم مدونات

أرطغرل.. والإعلام الهادف!

مدونات، أرطغرل

قرأتُ ثناءً كثيرًا على مسلسل "أرطغرل" وقادني الفضول للبدء بمتابعته، فعذرتُ من مدحه وبالغ في الثناء عليه، واستغربتُ من تحذيرات البعض من مشاهدته أو الاغترار به. المسلسل يعرض لصورٍ جميلة وقيم رائعة بتنا نعتقد أنها ضرب من ضروب الأسطورة، فإذا هي حقيقة كائنة في تاريخنا المجيد الذي نجهل الكثير من دقائقه وصور رجالاته ونسائه.

 

هو فعلا ليس عملا دراميا وفنيا فحسب، بل رحلة خالدة في ذاكرة المشاهد، توقظ بمَشاهدها تلك الروح المسلمة التي تعتزّ بدينها أولا، وتوقن أنّ هدفها في الحياة ليس الاستمتاع بشهوات الدنيا الفانية، بل دورها الأعظم قيادة العالم للسير في طريق الله، وإعلاء كلمة الحق، ونشر العدل، ومحاربة الظلم والفساد، نخوة ومروءة تطالعك في كثير من مواقف البطل "أرطغرل"، وشهامة وأخوة تُجسد بجلاء معنى "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله"، حب عفيف ونقيّ يسري بين شخوص المسلسل دون أن يخدش تلك الصورة الجميلة. أنوثة فاعلة وحكيمة تتجسد بين الحين والآخر في بطلات المسلسل، سواء الأم أو الزوجات أو نساء القبيلة المحاربات وغير المحاربات.

 

أرطغرل ذاك الطير الجارح والمحارب الذي آل على نفسه أن لا يغمد سيفه إلا وأمة الإسلام موحدة تحت راية واحدة، عزيزة بعز الإسلام، روح تأبى الخنوع والذل، وترفض الخور والجبن..

وقد لفت انتباهي الدور الفعّال الذي أُنيط بالنساء في المسلسل، والصورة المشرقة التي تمّ التركيز عليها بالنسبة لهنّ، إذ تشعر وأنت تتابع مواقفهن بقيمة المرأة المسلمة التي تظهر بدءا بكامل حيائها ولباسها في المسلسل، وتؤكد أنها كائنٌ فاعلٌ في مجتمعها، تقوم بأعبائها داخل البيت، وتعتني بتربية أبنائها، وتحيطهم بكامل الرعاية والتربية، مطيعة لوليّ أمرها "أبًا أو زوجًا أو أخًا"، دون أن تغفل دورها الريادي داخل مجتمعها القبلي، والأغرب اعتداد الرجال من قومها برأيها، وتقدير هم لدورها في حالتي السلم والحرب.. هنّ نساء ناعمات في حالة السلم، ومقاتلات شرسات في حالة الحرب والدفاع عن الشرف والقبيلة، راقني كثيرا ردّ فعل حليمة الشرس ضد "حارس القصر" حين وضع يده على كتفها ليسحبها للخارج فقالت غاضبة: "بأي حق تضع يدك على امرأة؟".. شخصيا شعرتُ بعزّة المرأة وأنا أتابع الكثير من مواقف بطلات المسلسل.

 

لهذا فالمرأة المسلمة حين تتشرّب تعاليم دينها بشكل صحيح تشعر بقيمتها كأنثى، فتحيا الحياة في عزها وشموخها بعيدا عن أيّ نقصٍ قد يسِمُها به "الآخر"، لكن متى نأتْ بنفسها عن شرع ربّها، وقلبت ظهر المجنّ له، لن تفتأ تستشعر بذاك النقص الذي يحاول (الآخر) إيهامها به، وستظل تقاتل طواحين الوهم التي يُروّج لها في كل المنابر، ولن ترتاح حتى تؤوب لشرع ربّها وتعضّ عليه بنواجذ اليقين.

 

ومع هذه الجماليات هناك إشارات واضحة إلى أن جسم الأمة المسلمة ما تمزّق بيد عدوه فحسب، وإنما بيد الخونة من أبنائه، ممن أغرتهم الحياة الدنيا، فطمعوا في المال والسيادة، وناصروا عدو الأمة على إخوانهم، حكاية قديمة تتكرر فصولها عبر الأجيال في ظل الصراع الدائم بين الحق والباطل، بين العدل والظلم، وبين الخير والشر، فتنٌ يميز الله بها الخبيث من الطيب، فيظهر عباده الصالحون الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم، والأفّاكون الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ربهم ودينهم.

 

أرطغرل ذاك الطير الجارح والمحارب الذي آل على نفسه أن لا يغمد سيفه إلا وأمة الإسلام موحدة تحت راية واحدة، عزيزة بعز الإسلام، روح تأبى الخنوع والذل، وترفض الخور والجبن.. شخصية آسرة فعلا نفتقد مروءتها وغيرتها ورجولتها وشجاعتها وحنكتها بين ذكور الأمة اليوم .أرطغرل كلما شاهدت حلقاته أيقنتُ أننا في الحياة : نلهو ونلعبُ، وأن هناك بونا عظيما بيننا وبين ديننا.. بيننا وبين ما يريده الله منّا.. بيننا وبين الغاية العظمى من وجودنا على هذه البسيطة!

  undefined

 

قد يقول البعض هذا مجرد مسلسل، وأنّ سيناريو الأحداث فيه كثير من الخيال تحتمه الضرورة الفنية، لكن المؤكد أن واقع الشخصية كان أشد وأعظم، وأن تاريخنا الإسلامي الذي بلغ ذروة تألقه كان به من الفرسان ما يجعلك تشعر بالغبن وأنت تعيش في زمننا (الأسود) هذا الذي حمل رجاله الدفوف ونافسوا النساء في زينتهن! زمنٌ تبلّدت فيه مشاعر المسلمين فما عادت تعرف معروفًا ولا تنكر منكرا، زمنٌ تُباع فيه الأوطان بأبخس الأثمان، وتُراق فيه دماء الأبرياء صباح ومساء، ويدُ العدالة مُكبّلة لا تستطيع القصاص، ولا الانتقام للأرواح التي زُهقت، ولا الأراضي التي سرقت.

 

تخيّل لو أن إعلامنا العربي والمسلم عموما صار يتنافس في عرض أعمال فنية بذات الدقة والبراعة في السيناريو والتمثيل والرؤية التاريخية، فمن المؤكد ستتغير أمور كثيرة في مجتمعاتنا، في عقلياتنا، في سلوكاتنا، وفي اهتماماتنا، في نظرتنا لذواتنا كأمة أرادها ربّها أن تكون "خير أمة" آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر. بدل التنافس في عرض السخافات التي أنجبت أجيالا عقيمة على كل المستويات.

 

وكلنا يعي اليوم بالدور الأساس الذي بات يقوم به الإعلام كآلية من آليات البناء أو الهدم، وتأثيره الكبير على الحياة العامة والخاصة للأفراد، بل لعله أضحى المبلور الأساس للقيم الحياتية لكثير من الأفراد. لذا وَجب على المفكرين والتربويين وكل الغيورين أن يكثفوا جهودهم ويوجهوا اهتمامهم لتوجيه هذا الإعلام توجيها صائبًا يخدم الشأن العام للمجتمع. وعلى الإعلام أن يتحمل مسؤوليته ويكفّ عن بثّ برامج تعتمد على الترفيه السمج والإثارة والميوعة والترويج لثقافة العنف والجنس. ويسعى لبث برامج هادفة قيم تنّمي تلك العزّة والنخوة والشهامة والعدالة والأخوة التي نشتاق إليها اليوم كشوق الغريبِ لحضن الوطن.

 

في الأخير أودّ أن أقول أن المسلسل كونه عملاً فنّيًا أكيد سنجد بعض التحفظ على بعض مشاهده، لكنه بالنسبة لي لا يكاد يحجب الكثير من إيجابياته والتي ذكرت بعضها. وبعدُ،فهذا المقال لا يعدو أن يكون انطباعا من متابعة ومشاهدة لهذا العمل الإبداعي، قد يكون صائبا، وقد يشوبه بعض الزلل، والله أسأل حسن السداد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.