شعار قسم مدونات

زمن الشيخ "غوغل" والتوازن في فهم النصوص

blogs جوجل

تبحث عن رأي الشرع في موضوع معين فتذهب إلى يوتيوب لتفاجأ بوجود واعظَين مختلفين في طرحهما وقد يصل الاختلاف حد التناقض أحيانا مع أن الأدلة التي يستند إليها الطرفان هي مما يصلح الاستدلال به وهنا تقع في حيرة، فهل هناك تناقض في نصوص الوحي في المسألة الواحدة وأيهما يمثل الشرع الحنيف. في الحقيقة لا يوجد تناقض في نصوص الوحي ولكن ذلك قد يظهر لخلل عند القائل في فهم مقاصد الشريعة فليس كل من يظهر على المواقع والفضائيات مؤهلا ليؤخذ العلم منه فتراه ينقل بعض النصوص في المسألة ويترك بعضها، مما يزيد في بلبلة فهم العوام الفطري للدين.

 

وقد يظهر ذلك لطبيعة الأدلة وقابليتها لتعدد الاجتهادات وهذا من طبيعة التيسير والمرونة التي اختصت بها الشريعة فهنا يكون الاختلاف مدعاة لثراء الحلول وتنوعها لا لتعارض الأدلة وتضادها كما يظن البعض. وأخيرا قد يظهر ذلك لخلل في المتلقي عندما يبني رأيه على مقطع قصير اقتطع من هنا ومقطع قصير من هناك، دون نظر في سياق النص ويأتي هذا غالبا من أنصاف أو غير المتخصصين إما بحسن نية أو ابتغاء فتنة من بعض آخر وسأضرب ثلاثة أمثلة ليتضح الأمر أكثر.

  

لعن شارب الخمر
من ترهبن عن الدنيا وانقطع عنها وتبتل طلبا للعبادة تقدم له النصوص التي تحد عنده من الرهبانية المخالفة للفطرة البشرية والتي قد تحمله على التقصير في حق نفسه وحق من حوله

جاء ذم شارب الخمر ووعيده في أكثر من نص بينما أورد البخاري حديثا نهى فيه النبي عليه الصلاة والسلام بعض أصحابه عن لعن شارب الخمر وقال لهم "لا تلعنوه فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله" هنا كيف نفهم نصوص الوحي؟ النصوص هنا تفرق بين ساحتين ساحة العلم والفتوى وساحة الإصلاح والدعوة كما يرى شيخنا محمد عياش الكبيسي ففي ساحة العلم والفتوى تقال الحقيقة كما هي بأن شارب الخمر يستحق اللعن ويستوجب كل الأحكام المترتبة على الفعل، أما في ساحة الإصلاح والدعوة فليس مطلوبا قول كل ما هو حقيقة فنحن هنا دعاة ولسنا قضاة ومراعاة للحالة النفسية والمجتمعية يُنظر لشارب الخمر بأنه يحب الله ورسوله والمجتمع يسعى لإصلاحه وتأهيله لا لاحتقاره وزرع الكراهية لمن حوله في قلبه.

 

المشكلة تزداد تفاقما هنا عندما يأتينا شخص لا ينتبه لحالة التوازن بين الطائفتين من النصوص ثم يشحن المجتمع ضد شارب الخمر، وقد يتقمص بعض الشباب المندفع دور الحاكم والقاضي متجاوزا حدود صلاحياته المحصورة في النصح والإصلاح وطالما سمعنا عن حالات كثيرة من الاعتداء وفقا لهذا الفهم الخاطئ.

 

الزهد في الدنيا

 ترد أدلة من الوحي تدعو إلى الزهد في الدنيا وأدلة أخرى تدعو المسلم إلى الكسب بطرق مشروعة والسعي لعمارة الأرض وتحقيق الكفايات هنا كيف نفهم نصوص الوحي، علينا أن نقر أولا باختلاف تعاطي النفوس البشرية مع موضوع الدنيا فمنهم من ينفتح عليها انفتاحا يوقعه في الشبهات ومنهم من يزهد فيها ويترهبن حتى يراها ملعونة، ومنهم بين هؤلاء وهؤلاء ولكن نصوص الوحي جاءت لتعالج كل أنواع النفوس ولتتنزل على الواقع وفقا لمقتضى الحال وما يُصلحه فجاء قسم من النصوص لمعالجة الإفراط وقسم آخر منها لمعالجة التفريط، فمن أغرته الدنيا وملذاتها تقدم له النصوص التي تكبح جماح هذه الشهوة التي قد تفسد عليه آخرته ودنياه ودنيا المجتمع من حوله من قبيل قوله تعالى "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى" وقوله تعالى "يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ".. إلخ.

  

ومن ترهبن عن الدنيا وانقطع عنها وتبتل طلبا للعبادة تقدم له النصوص التي تحد عنده من الرهبانية المخالفة للفطرة البشرية والتي قد تحمله على التقصير في حق نفسه وحق من حوله أو تصرفه عن واجب عمارة الأرض ونفع الناس فتقدَّم له نصوص كقوله تعالى "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" وقوله تعالى "وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ" وقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه في الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادته "فقال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".

 

undefined
 

فمن لم يعرف هذا التوازن في نصوص الوحي فقد يذهب إلى نصوص وضعت لمعالجة الإفراط في حب الدنيا ليقدمها لأهل الرهبانية والتفريط بالدنيا فيزيدهم انقطاعا عنها أو يذهب إلى نصوص وضعت لمعالجة التفريط ليقدمها لأهل الإفراط فيزيد قلوبهم تعلقا بها وذلك خلل في فهم مقاصد الشريعة ومعالجاتها لمتغيرات الواقع تبعا لتغير الأماكن والأزمنة والأحوال. من الواجب التنبيه هنا إلى أن الزهد ليس في ترك العمل في الدنيا بحجة الانقطاع للطاعات فيصبح عالة على غيره، بل الزهد أن يجد الدنيا في يده وينزعها من قلبه وتلك من أعظم درجات المجاهدة.

 

الترشح للمناصب العامة

نجد نصوصا من الوحي نهت عن طلب المنصب والترشح لأداء وظيفة عامة تشريعية أو تنفيذية كقول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه "لا نستعمل على عملنا من أراده أي طَلَبه" وفي روايةٍ "إنا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه" بينما نجد نصوصا أخرى صرح فيها أنبياء وأولياء بطلب الترشيح للوظيفة ونقلها لنا القرآن الكريم دون أن يرد في شريعتنا نهي قطعي يفيد نسخ هذه الشرائع السابقة كقول سيدنا يوسف عليه السلام لملك مصر "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ" وقول الولي الصالح لسيدنا سليمان عليه السلام "أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ" فكيف نفهم هذه النصوص؟
 

استقاء المعرفة واستيعابها يقتضي أولا معرفة طرق التلقي وأدواتها ووسائلها ووجهاتها ثم موثوقية المعلومات وطرق ترتيبها لتحقق نوعا من النضج والإدراك

الأمر ينجلي في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر قال: "قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" فالحديث يفرق بين طالبين لتولي الأمور أحدهما ضعيف لا يمتلك موهبة القيادة ومهارات الإدارة لأداء الأمانة فهذا يجب تنبيهه وتحذيره من خطر تحمل المسؤولية والتقصير فيها، والآخر قوي أمين يأخذها بحقها ويؤدي الذي عليه فيها فإن تبين صدق ما أخبر عن نفسه فمن الأمانة اختياره لأداء المسؤولية وإعانته عليها.

 

وأما الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وقال فيه النبي عليه الصلاة والسلام "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها" فمع أن الدليل لا يحمل إشارة على التخصيص غير أنه بالجمع بين أدلة الباب نجد إشارات لتخصيص النص وحمله على التفريق طبقا لحال المتقدم، فإن لم يكن طالبها مشتهرا بالكفاءة فقد لا يرتضيه المجتمع ولا يُمَكِّنه من أداء مهمته وأما إن عَلِم طالبُها من نفسه القدرة على حمل الأمانة فإن ذلك جائز ويمكن الاستئناس بحديث عثمان بن أبي العاص "فقد قال للنبي عليه الصلاة والسلام اجعلني إمام قومي قال أنت إمامهم واقتد بأضعفهم" فهنا يظهر التفريق وفقا لحال طالب الولاية.

 

لقد كان الناس فيما يعرض لهم من وقائع تحتاج لرأي شرعي يذهبون إلى الفقيه الثقة وهو يفصِّل في المسألة طبقا لما يقتضيه حال السائل ولكن الطفرة في تكنلوجيا التواصل جلبت سيولة معرفية أحدثت نوعا من الفوضى المعرفية وصار البعض يذهب إلى الشيخ غوغل في مسائل قد يتهيب منها بعض أهل العلم وكأن أحد أولئك المتعجلين ذاهب إلى مطعم للوجبات السريعة في زمن أصبح شعاره take away وهذا يحصل للأسف في كل المجالات كالطب والاقتصاد والسياسة وليس فقط في أمور الدين.

 

قبل شهر زرت صديقا انتابته وعكة صحية فذهب يبحث عن علاج في غوغل ووجد شخصا يصف خلطة لمثل حالته سرعان ما جاء بمكونات الخلطة وتناولها لمدة أسبوع فإذا بالألم يأتي هذه المرة من خاصرته وبالفحص الطبي تبين أن هذا العلاج أثر على كِليته وكاد أن يفقدها لولا لطف الله به.


إن استقاء المعرفة واستيعابها يقتضي أولا معرفة طرق التلقي وأدواتها ووسائلها ووجهاتها ثم موثوقية المعلومات وطرق ترتيبها لتحقق نوعا من النضج والإدراك، ولكن هل العيب هنا في المتلقي فقط أم أن للمثقفين والكتاب والعرب منهم على وجه الخصوص دورا في هذه الظاهرة؟ جواب هذه الأسئلة يتطلب قراءة أخرى ربما نطرق بابها في مقال آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.