شعار قسم مدونات

إذا سرقت فاسرق قلما!

مدونات - بوتين وشيراك والقلم

يقول الجميل نزار قباني مخاطبا حبيبته:

ما يبهرني يا سيدتي..
أن تهديني قلما من أقلام الحبر..
أعانقه..
وأنام سعيدا كالأولاد..
     

اكتشفت مؤخرا أنه لم يحدث أن أهداني أحدهم قلما! أقصد قلم حبر عادي، لا أدري لماذا! لكن ربما ونحن في عصر الأزرار الإلكترونية والماوس والقلم الضوئي، فإن أحدهم هذا لم يخطر بباله أن تبهرني هديته، أو لكونه لا يدرك أن علاقة خاصة تولد بين عشاق الكتابة وبين الأقلام، لا يمكن أن يعكر صفوها أي اختراع مهما بدا مغريا، أو لعله خشي أن أفعل معه كما فعل ليندين مع بوتين!

 

نعم، فقد رفض رئيس مركز انتخابي في العاصمة الروسية موسكو واسمه فيكتور ليندين، قبول هدية الرئيس فلاديمير بوتين، وكانت عبارة عن قلم استخدمه الرئيس الروسي في التصويت خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة. "ما حاجتي لهذا القلم.. لدي الكثير من الأقلام" هكذا جاء رد ليندين حازما ومحرجا! وبقدر ما أكبرتُ في الرجل شجاعته، بقدر ما تفهمت أسبابه! لأنني أكاد أجزم أنه لم يعد هناك من ينافس الكتاب والشعراء على حب الأقلام سوى رؤساء الدول، فلم أكن لأصدق أن تلك الأداة الصغيرة قادرة على إيقاع أصحاب الفخامة في شباك غرامها، حتى رأيت أن انبهارهم بها قد وصل بهم حد سرقتها!

 

ألا يكون من الأجدر أن تكسر أقلام كل حاكم متجبر للدلالة على نهاية سلطته وتسلطه بانتهاء قبضته على شعبه؟ فقطعا لا أحد يمتلك أحداً أو شيئاً حقاً، أو يضمن دوامه والاستحواذ الأبدي عليه!

هذا ما قام به بالفعل الرئيس التشيكي فاتسلاف كلاوس الذي فُتن ذات مؤتمر بقلم، حتى أنه نسي عدسات الكاميرات الفضولية من حوله، وهي تتابع كيف فتح العلبة الأنيقة أمامه، ليلتقط القلم ويتأمله بفرحة طفل عثر على لعبة محببة، قبل أن ينقله من يده اليمنى إلى اليسرى ليستقر أخيرا في جيب سترته! وضع كلاوس بلاده حينها في موقف حرج، بعدما تناقلت وسائل الإعلام العالمية خبر السرقة، وأصبحت تلك اللقطة واحدة من أكثر الفيديوهات مشاهدة على الإنترنت، ولكن ودفعا للحرج عن الرئيس، برر البلد المضيف تشيلي الموقف بكون القلم كان هدية لكلاوس!

 

رئيس آخر لم يتمالك نفسه أمام سحر قلم وقام بسرقته، يتعلق الأمر بالرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، الذي بدا أكثر اهتماما بالقلم الموضوع أمامه، منه إلى الاتفاق الذي قام بتوقيعه في رومانيا، لذلك نراه ينظر عدة مرات إلى القلم، ويتظاهر بأنه يضعه على الطاولة، قبل أن ينهض من مقعده ويضعه في جيبه! الرجل أصبح بعدها مثار سخرية الأصدقاء والأعداء على حد سواء، ولحقته تبعات فعلته الشنعاء في كل زياراته الدبلوماسية، كتلك التي قام بها إلى ألمانيا ليبحث مع أنجيلا ميركل مشكلة "الاتحاد من أجل المتوسط" العويصة، وفي نهاية المقابلة، عرض عليه مستشار ميركل القلم الذي وقّع عليه للتو بعض الوثائق الرسمية قائلا: "أعتقد أنك تجمعها!" لكن السؤال الذي حير الموالين قبل المعارضين: لماذا يقع فخامة الرئيس في حب قلم حبر جاف لدرجة تصل به حد سرقته؟

 

يصف كتاب القيصر الجديد لستيفن لي مايرز لحظة مغادرة الرئيس الروسي السابق يلتسين للكرملين، عندما توقف في الردهة خارج مكتبه- الذي أصبح اليوم مكتب بوتين- وأخرج من جيبه القلم الذي استخدمه لتوقيع آخر مرسوم أصدره، وقدمه لبوتين قبل أن يقول له موصيا: "اعتن بروسيا".

  

بوتين ويلتسن (رويترز)
بوتين ويلتسن (رويترز)

 

هل يكون القلم إذن رمزا من رموز السلطة، على اعتبار أن التوقيع يحتل مكانًا مهمًا في حياة الرئيس اليومية؟ فهو بجرة قلم يرسم السياسات، ويوقع القوانين والاتفاقيات، وقد تصبح السلطة مطيته للحصول على الوجاهة والثّروة والمكاسب، وكلما قلت الشفافية والمحاسبة، كلما تيسر للرؤساء السطو على ميزانيات شعوبهم، مالئين منها أرصدتهم الموزعة على بنوك العالم، متوهمين قطعا أنها ملك لهم.
   
فلا تستغرب إذن عزيزي القارئ إذا قام "سيادته" -دون خجل ولا وجل- بالسطو على قلم تافه القيمة بالنسبة لك، فهو فقط لم يستطع أن يضبط نفسه أمام إغراء السلطة وفتنتها حتى وإن كانت على هيئة قلم زهيد! لكن ألا يكون من الأجدر أن تكسر أقلام كل حاكم متجبر للدلالة على نهاية سلطته وتسلطه بانتهاء قبضته على شعبه؟ فقطعا لا أحد يمتلك أحداً أو شيئاً حقاً، أو يضمن دوامه والاستحواذ الأبدي عليه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.