شعار قسم مدونات

يوم شيّعت دمشق نزارها

مدونات - نزار قباني

ولد الشاعر الدمشقي نزار قباني يوم الانقلاب الربيعي (21 آذار/مارس) من عام 1923، في وقتٍ كانت تُعلن الأرض فيه خصوبتها ونماءها، وتوفي في يومٍ ربيعيٍّ مزهر (30 نيسان/ أبريل)، وما بين ربيعٍ وربيع، (75) عاماً وما يزيد عن الـ (35) ديواناً شعرياً. وإذا كان يوم ميلاد الطفل نزار بن توفيق قباني -صاحب مصنع لإنتاج الحلويات والملبس- حدثاً عابراً في تاريخ سوريا التي كانت تعيش وقتها تحت مظلة الانتداب الفرنسي، وإرهاصات تسليم سلطان باشا الأطرش نفسه لسلطات الانتداب تحت ضغطٍ بريطاني، فإن وفاة شاعرٍ بحجم الوطن لم تكن كذلك أبداً.

لم تُغمض عينيّ نزار قباني لآخر مرة في دمشق التي أحبها، بل في العاصمة البريطانية لندن التي قضى فيها آخر (15) سنة من عمره في منفىً اختياري، عانى في آخر سنة فيها من تردي وضعه الصحي حتى وفاته بأزمة قلبية في أحد مستشفياتها عام 1998. ولكن في وصيته التي كتبها في المستشفى، أوصى بأن يُدفن في دمشق: "أرغب في أن يُنقل جُثماني بعد وفاتي إلى دمشق ويُدفن فيها في مقبرة الأهل، وأرجو من جميع أهلي وإخوتي تنفيذ هذه الرغبة التي أعتبرها نهائية، لأن دمشق هي الرحم الذي علمني الشعر، وعلمني الإبداع، وأهداني أبجدية الياسمين، هكذا يعود الطائر إلى بيته، والطفل إلى صدر أمه". وفعلاً نُقل جثمان نزار قباني إلى مسقط رأسه دمشق ليُدفن في مقابر العائلة (مقبرة باب الصغير).
  
لم تكن جنازة الشاعر الدمشقي الكبير جنازةً عادية، بل "هي جنازة لم تشهد دمشق مثلها إلا عند وفاة رجل الاستقلال السوري فخري البارودي عام 1966″، بحسب كلمات الأديبة السورية الدكتورة ناديا خوست، مسؤولة لجنة الحفاظ على المدينة القديمة في دمشق. كانت جنازة قباني "عُرساً حقيقياً شغل أهل دمشق وعرقل السير طويلاً في شوارعها"، بحسب كلمات المخرج المسرحي السوري الدكتور رياض عصمت. في الجنازة "لم تخرج السلطة، ولكن الجنازة تحوّلت إلى تظاهرة وفاء دمشقي، وكل المحاولات التي فعلها النظام وغيره لمحاربة نزار فشلت تماماً"، بحسب كلمات وزير الثقافة السوري السابق الدكتور رياض نعسان آغا.

 

 

صُلي على الجُثمان في الرابع من شهر أيار/ مايو في جامع بدر بمنطقة المالكي، وكان على الجنازة أن تُشيّع بالسيارات إلى مقبرة باب الصغير بمنطقة باب الجابية، ولكن المُشيعيين اختطفوا النعش الملفوف بالعلم السوري من المشاركين أهلاً ومثقفين، وحملوه على الأكتاف، قاطعين دمشق سيراً على الأقدام من غربها إلى شرقها، مروراً بالشارع الذي يحمل اسم نزار قباني في منطقة أبو رمانة، والذي توجد به دارة آل قباني. ربما من الخطأ القول أن تشييع نزار قباني إلى مثواه الأخير كان مجرد جنازة، لا يبدو ذلك مطلقاً عند متابعة الفيديوهات الموجودة على يوتيوب، أو الريبورتاجات التلفزيونية التي واكبت الحدث ساعة بساعة.

 

ما الذي دفع الدمشقيون إلى حمل النعش على الأكتاف، واجتياز كل هذه المسافة مشياً؟! وهي لغير العارف بجغرافيا دمشق ليست بالقليلة. ما الذي دفع الدمشقيون لترديد عبارة: "زينو المرجة والمرجة لينا، الشام شامنا، ونزار حبيبنا" طوال مسيرهم؟! ومناداة كل حيّ دمشقي يمرون به: "يا أبو رمانة هوجي هوجي"؟! وقراءة سورة الفاتحة عدة مرات ومقاطع من قصيدته (ترصيعٌ بالذهب على سيفٍ دمشقيّ) بصوتٍ عالٍ؟! ما الذي دفع الدمشقيات إلى خرق العادات الشامية لأول مرة، وخروجهنّ بالمئات في الجنازة التي هي تقليدياً من اختصاص الرجال، وهنّ يرتدين السواد، ويذرفن دموع الأسى لرحيل شاعر النساء؟! ولِمَ شهدت الجنازة تواجداً مكثفاً لقوات الشرطة العسكرية وعناصر الأمن؟! وكانت في وقتها سابقة لم يعتدها الدمشقيون، حتى ظهرت مجدداً عقب اندلاع المظاهرات المعارضة للنظام السوري في ربيع 2011.

 

رسم نزار قباني هوية مدينة دمشق بشعره بتفاصيلها الأموية والعربية، وكرمته الدراما السورية بمسلسل سيرة ذاتية عن حياته حمل اسمه، واحتفت إحدى حلقات المسلسل السوري الشهير "الفصول الأربعة" به في لوحة حملت عنوان "أصدقاء نزار"، والتي قال في ختامها الفنان السوري الكبير خالد تاجا على لسان شخصية كريم التي أداها في المسلسل: "الدنيا لسى بخير.. إذا في بلد كامل بيطلع بجنازة شاعر".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.