شعار قسم مدونات

بالأمس رثيت ابنتي

مدونات - الغوطة

هذا هو الصباح الأخير لها، زاد مرضها في آخر شهر تقريباً حتى كاد يطيح بها، نعلم أنا وهي ومن حولها أنه اليوم الأخير لها على قيد الحياة، فتك المرض بجسدها تماماً، نخره حتى العظم، وما عاد العلاج ينفع، كبر الورم داخل جسدها وتضاعف حجمه، بدأ بخاصرتها وتغافلنا عن علاجه وقصرنا في ذلك، ثم انتشر الورم وانتشر حتى أتى عليها كلها، واليوم هو يوم الوداع الأخير.

 

البارحة رثيت ابنتي، كتبت فيها سطور، صفحات، مجلدات، لم يكف ما كتبته، استعنت بحبر الذاكرة وأقلام الذكريات، عندما تعجز الأبجديات عن وصف ما يجري، وحين تسقط الحروف أمام هكذا آلام، لا نعلم طريقة نواسي بها أنفسنا، ولكننا نقول حسبنا والله نعم والوكيل. طأطئ العز رأسه إجلالاً لها، وانحنى المجد أمامها، ركعت البطولة تحت أقدامها رأيتها شامخة تنظر للمحتل شذرا، تبصق دماء الشهداء في وجه المغتصب، يشتعل ترابها جمرا تحت أقدامهم وتتوعدهم بالفناءِ ولو طال الزمان بهم، رحلت موطن البطولة تحت إشراف أممي وتواطؤ عالمي، على مرأى ومسمع الجميع تُهدَمُ بلادٌ كاملة ويهجر أهلها.

 

لأهل الغوطة المهجرين احتراماً مضاعفاً، نسألهم أن يعذروا تقصيرنا، أحوالهم هي التي ستجعلنا نشعر بأنفسنا كائناتٍ طفيلية نستمد فرحنا من حزنهم وضحكاتنا من آلامهم، نعيش بسلامٍ مزيفٍ على أنقاض أمانيهم

بالأمس فقط غلبتني دمعتي، سال ماء المقلتين المالح على الوجنات، ألم أكبر من الوصف وأعظم من أن يشرح، خندق جديد حفر في القلب، للغوطة الشرقية سلاماً، سلاماً لتلك الأرض الطهور، سلاماً لذلك الركام، سلاما لتلك الليالي وتلك اللحظات، فقدتُ الغوطة فرثيتها وكأنما أرثي ابنتي، انتحب، أصرخ وتهدأ النفس فجأة على صوت آية قرآنية من شفاه أحد الأبطال "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"، ابتسم لشجاعته وأحزن لحزنه، يؤلمني أن يفارق تراب بلده، ذلك المكان الذي كان يوما كالرحم لكل حر، قبلة ثوار دمشق وريفها، لم يعد كمان كان، من لم تطأ قدماه ثرى الغوطة لن يعرف طعم الحب يوماً، لن يذق لذة الهدوء والسكينة ولن يستشعر العز والمجد الحقيقيين.
 
في صور التهجير الأخير، هذا يحمل متاعه أو ما تبقى منه، ذلك يحمل لباساً بالياً، لا يهم اللباس بقدر ما يهم أن يحمل معه من رائحة بلده شيئاً، أن لا يترك للمغتصب من أثره أي شيء، وفي منتصف الصورة طفلاً يحمل مصحفا، يمشي مع والده، تدمع عيناه، ما يُدري ذلك الطفل بمعنى الاشتياق للبلد والتعلق فيها وهو ذو السبعة أو الثمانية أعوام، ذلك الطفل هو الثورة وهو التغيير الذي نأمل، صورة أخرى بل صورٌ أخرى كثيرة، كلها تورث الألم والعذاب النفسي، شاب يحمل سلاحاً لم يفارقه منذ 7 سنين تدمع مقلتيه لبعده عن جبهة قتال عاش فيها أكثر من معيشته في بيته ربما، وشاب آخر في نهاية الصورة يحمل والده المريض، لم يكن مريضا من قبل، لكن استشهاد الزوجة قد قسم ظهره وأقعده.
 
لسنا من جنس البشر بعد الآن، فقدنا إنسانيتنا إلى ما لا عودة، لا تبريرات ولا حجج نستطيع تقديمها للآخرين بعد الآن، لكننا نستطيع تبرير ذلك لأنفسنا لأن الكذب على النفس أصبح مهنتنا فاحترفنا مهنة خلق الأعذار لتقاعسنا. لن يغادرني ذلك الإحساس بعد الآن أبداً، تلك اللحظة الحاسمة والفاصلة في تاريخ حياتي، سنفقد الطمأنينة والرضا أبداً ما زالت هي قابعة في جحيمها الخانق، ستضيق علينا أجسادنا وتخنقنا.

   undefined

 

لأهلها المهجرين احتراماً مضاعفاً، نسألهم أن يعذروا تقصيرنا، أحوالهم هي التي ستجعلنا نشعر بأنفسنا كائناتٍ طفيلية نستمد فرحنا من حزنهم وضحكاتنا من آلامهم، نعيش بسلامٍ مزيفٍ على أنقاض أمانيهم، نستمد أمننا من خوفهم، تخمتنا من جوعهم، غنانا من فقرهم، وراحتنا من شقائهم، ولكننا سنعجز عن أن نستمد قبس نورٍ منهم فقد احتفظوا بشعاعهم لوحدهم وتركوا لنا الظلمة والظلام لنتوه فيها، لن نقدر على أخذِ حتى مشعلَ ضوءٍ من وجوههم الطيبة المغبرة بفعل القصف، الخطر المحدق بهم سيولد لدينا شعوراً بالندم والعجز، وستتولد من دمائهم لعنة تلطخ جباهنا إلى أبد الآبدين، سنعجز عن حتى التشبه بهم، أخذوا المجد جميعاً وتركوا لنا الخذلان والضعف.
  
اقبضوا حفنة من تراب الغوطة وذروها في أعين المتخاذلين عن نصرتها علها تعمى بصرهم كما عميت بصيرتهم عن رؤية ما حصل وما يحصل على أرضها، ذروها على رؤوسهم علها تزيد من إنسانيتهم، ارمي حفنات من ترابها في أنحاء العالم كله لكي تزداد قداسة أراضيه، وأتِ لي بحفنة أضمها لصدري، ألثم عطرها الممزوج بدماء الشهداء ودموع الثكالى والأرامل والأطفال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.