شعار قسم مدونات

"صفقة القرن".. بين الجزائر 1900 وفلسطين 2018!

مدونات - ثورة المليون شهيد
في سنة 1900 كان قد مرّ سبعون عاما على احتلال الجزائر من طرف الاستعمار الفرنسي سنة 1830، وفي عامنا هذا 2018، يكون قد مرّ نفس الزمن على احتلال فلسطين من طرف العصابات الصهيونية التي تحوّلت إلى دولة سنة 1948، وبالقياس على زمن الكفاح الجزائري، لم يحن الوقت بعد للحكم على فشل فلسطين في تحقيق في استرجاع أرضها، فلا يزال أمامها 62 سنة أخرى من النضال والمقاومة حتى تنال ما نالته الجزائر سنة 1962، ويكون بالتالي 132 عاما من الاحتلال هو القاسم المشترك بين فلسطين والجزائر، فهل تجوز المقارنة بهذه الطريقة؟ طبعا لا.. ولكن. فكما للأمم أعمار حسب نظرية ابن خلدون، فقد يكون لها أيضا أقدار مثل البشر، وبالتالي فقدر فلسطين مع الاحتلال الإسرائيلي لا يزال في حكم الغيب، بينما قدر الجزائر مع الاحتلال الفرنسي أصبح في حكم المعلوم وهو الآن جزء من التاريخ، ولهذا فالدخول في لعبة الأرقام مع التاريخ والجغرافيا يميّع القضية الفلسطينية ويدخلها في متاهات جانبية لا طائل من ورائها.
 
غير أن ما راج مؤخرا من معلومات حول وجود مشروع لتصفية القضية الفلسطينية في إطار ما اصطلح عليه بـ "صفقة القرن"، يجعلنا نتشبث بالأرقام في تفسير التاريخ والجغرافيا، لأن هذه الأرقام قد تكون هي إحدى أكبر دعائم المشروع وحججه، كأن تسمع صوتا يقول أن الهدف الرئيسي من صفقة القرن هو وضع حد لـ 70 عاما من المعاناة الطويلة للشعب الفلسطيني، وهذا الرقم قد يؤسس إلى تنازلات تفوق الخيال، ولهذا فالاستنجاد بالنموذج الجزائري في الكفاح الطويل ضد الاحتلال هو أنسب ما يكون للقضية الفلسطينية .
 

التحول الكبير الذي حصل سنة 1900 هو حصول المستوطنين الفرنسيين في الجزائر على الاستقلال المالي عن الدولة الأم فرنسا، حيث تم الاستفراد بثروات وخيرات الجزائر في إطار الاستقلال الذاتي

في سنة 1900 كان الشعب الجزائري قد استنفذ جميع قواه في مقاومة الاستعمار الفرنسي بعدما قدّم نصف مليون شهيد من أبناءه كمحاولة أولى لطرد المحتل، ففي هذا العام لم تبق بندقية واحدة مرفوعة في وجه العدو، فسياسة الأرض المحروقة طبّقت بحذافيرها لقمع الثورات الشعبية التي التهبت في كل مكان، ثورة الأمير عبد القادر في الغرب الجزائري وثورة أحمد باي والمقراني في الشرق الجزائري وثورة أولاد سيدي الشيخ والشيخ بوعمامة وواحة العامري في الجنوب الجزائري، وغيرها من الثورات المتفرقة والغير منظمة، ناهيك عن أنها محاصرة خارجيا من طرف الجيران، فأبيد جميع المقاومين ومن بقي منهم تم نفيهم وعائلاتهم إلى دول المشرق العربي خاصة سوريا وإلى كاليدونيا الجديدة.
   
بعد هذه المرحلة العصيبة، استتبت الأمور بشكل منقطع النظير لتثبيت ركائز الاستيطان، وأكملت وزارة الحرب الفرنسية التي كانت تشرف على احتلال الجزائر مهمتها، وسلّمت المستعمرة للسلطات المدنية، وكان الجنرال "شانزي" هو آخر حاكم عام عسكري ينتمي إلى الجيش يحكم الجزائر حيث أنهيت مهامه سنة 1880، وبدأ الجزائريون مرحلة جديدة مع السلطات المدنية الفرنسية أكثر قسوة من سابقتها، إنها مرحلة التحطيم المادي والمعنوي وتفكيك النسيج الاجتماعي ومسح الهوية الجزائرية من جدورها، وكانت البداية سن قوانين مصادرة الأراضي وتوزيعها على المستوطنين القادمين من الدول الأوروبية بعد منحهم الجنسية الفرنسية، استولوا على أكثر من 5 ملايين هكتار من أخصب الأراضي، كما تم إنشاء البلديات لتعويض النظام القبلي العروشي، وحرم الجزائريون من حق الانتخاب والترشح.

  
والتحول الكبير الذي حصل سنة 1900 هو حصول المستوطنين الفرنسيين في الجزائر على الاستقلال المالي عن الدولة الأم فرنسا، حيث تم الاستفراد بثروات وخيرات الجزائر في إطار الاستقلال الذاتي، وهو ما يستوجب سنّ قوانين قاسية لردع أي حركة مناهضة، على غرار "قانون الأهالي" الذي تم العمل به إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يفرض الإقامة الجبرية على كل جزائري داخل قبيلته، ومعاقبة المخالفين بالسجن دون محاكمة، كما تم إلغاء التعليم العربي واستبدال القضاء الإسلامي بالقضاء الفرنسي، وإرغام الجزائريين على التخلي عن هويتهم الإسلامية مقابل منحهم الجنسية الفرنسية على غرار اليهود، كما تم تطبيق نظرية فرّق تسد بين الجزائريين عن طريق تشكيل فرق عسكرية عديدة من أبناء الوطن من أجل قمع إخوانهم وقتل روح التضامن بينهم وجعلهم يستنجدون بفرنسا من بطش بعضهم البعض، أما عنصر الدين فقد تم تسخيره في خدمة الاحتلال عبر الترويج لفتاوى تدعوا إلى طاعة المحتل على أساس أنه قضاء وقدر يجب الإيمان به.
  undefined
  
أي جزائري عاش سنة 1900 يستحيل أن يكون قد بقي في داخله بصيص من الأمل لعودة الجزائر إلى سابق عهدها، رغم أن صورتها الأصلية لا زالت عالقة في الأذهان، فهي سيّدة البحر الأبيض المتوسط لثلاثة قرون، تفرض الضرائب على جميع الدول الأوروبية وأمريكا مقابل الملاحة في مياه المتوسط، وتصدّر القمح إلى دول أوروبا على غرار فرنسا وإيطاليا، فكل ذلك أصبح كالسراب أمام هول المتغيّرات المتسارعة، وأصبح الجزائريون كل همّهم هو النجاة من الإبادة الشاملة، ورغم ذلك لم يعقدوا أي صفقة مع المغتصب وصبروا على كل أصناف القهر إلى أن جاء اليوم الموعود، يوم اندلعت فيه الثورة الجزائرية التي لم تنطفئ شرارتها حتى تم طرد الجيل الرابع من المستوطنين الغزاة، مخلّفين وراءهم منجزاتهم من العمران والاقتصاد إلى أهل الأرض الحقيقيين .
 
لقد كان قادة الثورة الجزائرية حينها يعيشون الصراع فيما بينهم، صراع وصل إلى حد الاغتيالات، لكنهم كانوا كلمة واحدة أمام العدو المغتصب، لأن هناك وثيقة تجمعهم هي بيان أول نوفمبر، وأكبر نموذج لوعي قادة الثورة الجزائرية هو رفضهم اقتسام أرض الجزائر مع المغتصب، ففي سنة 1956 اكتشفت فرنسا البترول في الجزائر، فجّن جنونها لهذا الخير الذي أطّل برأسه في عزّ الكفاح المسلح، فاستعانت بالحلف الأطلسي وأمريكا لقمع الثورة الجزائرية حتى تراكمت ديونها وكادت أن تنهار اقتصاديا في داخلها.
 
ففي هذه الظروف عرضت "صفقة القرن" على الجزائريين، وهو منحها الاستقلال التام مقابل التنازل عن الصحراء "فقط"، لكن الجزائريين أدهشوا العالم بتشبثهم برفض التنازل عن أي حبة رمل من الصحراء الجزائرية، وتعطلت المفاوضات واستأنف القتال بوتيرة أشّد، وسيّجت الحدود الشرقية مع تونس والغربية مع المغرب بالأسلاك الشائكة المكهربة لمنع دخول السلاح حتى نفذت الذخيرة وزادت الخسائر البشرية، ورغم ذلك لم يتم الاستجابة للعرض الفرنسي حتى انهار الجنرال ديغول أمام صمود الكفاح الجزائري، واستعادت الجزائر أرضها كاملة بعدما قدّمت مليون ونصف مليون شهيد.. ثمن باهض لا يعرف قيمته إلا الأحرار.
 
إن مقاومة الضغوط التي يعيشها الشعب الفلسطيني اليوم من أجل تصفية قضيته مقابل سلام بلا سيادة، يحتاج إلى تضحية لا نظير لها إلا في تاريخ الجزائر الملحمي، وفي هذا الشأن قال شاعر الثورة مفذي زكريا في ديوانه "اللّهب المقدس" ومما جاء فيه:
فليت فلسطين تقفوا خطانا
وتطوي – كما قد طوينا السنينا
وبالقدس تهتم لا بالكراسي
تميل يسارا بها ويمينا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.