شعار قسم مدونات

التّجديد.. إعمال أم إهمال للتراث!

blogs كتب إسلامية

يُعتبرُ الحديث اليوم عن التّجديد أو التّحديث من أبرز المواضيع المثارة للنقاش في واقعنا الحالي، وسائغ أن تختلف الرؤى وتضطرب؛ خصوصا وأنّ الموضوع جدّ مهم، يحتاج إلى تأصيل منهجي وإلى تنزيل واقعي.. فمفهوم التجديد؛ يعني بالضرورة الفهم السديد للنص الديني وفق ضوابطه رغم اختلاف الزمان والمكان والإنسان الذي تعامل وتفاعل مع النص في سياقه، أي؛ اصطباغ النص باللون الذي يوافق حاجات الناس في واقع معين..

 

وقد يكون هناك اختلاف في التعامل مع النص الديني تماشيا مع المرحلة المعيشة والسياق الظرفي الذي يحتّم نوعية الفهم والمنهج؛ فتنتج مصطلحات فاعلة: النهضة، الإصلاح، الإحياء، التجديد، التحديث… تدفع إلى التّفرقة بين الإحياء والإصلاح والتجديد كما ذهب يحيى محمد في كتابه "جدلية الخطاب والواقع" وأن التحديث لا يعني التجديد كما أكد عبد المجيد الشرفي في مقدمة كتابه "تحديث الفكر الإسلامي". وهنا لا أريد أن أُقحم نفسي في ذاك السجال العقيم الذي لا طائل من ورائه، بل أؤكّد على أهمية معرفة نقطة الانطلاق، لأنّه بقدر معرفة نقطة البداية أي "النموذج المعرفي الذي سننطلق منه" للحقل الذي نحن بصدده سنكون أقرب إلى الصّواب وأبعد من الزلل.

يظن المراهقين ممن لا يكفون عن التّبسيط، فيلبثون عند السطح في فهمهم للتراث، أن التجديد يتحقق فور نسيان القديم وتجاهله، بلا دراسة ودراية بمجالاته ومشاغله ومقولاته

يقول طه جابر العلواني: "لقد رُبطت قضايا الإصلاح والتجديد والتنمية والتقدم، وتجاوز حالات التخلف بأمور كثيرة لا تشكل للمسلم بؤرة لتوليد الدواعي والدوافع الخيرة ولا تقود حركته، ولا تزكي فعله، ولا تعينه العون السليم على إصلاح فعله ووضعه في مجال التأثير والفاعلية وما إلى ذلك.. ولن تستطيع أُمتنا أن تقوم بذلك قبل أن تصحح مسيرتها وتعيد بناء عالم أفكارها ودعائم ثقافتها، ومناهج معرفتها، وقواعد علومها؛ بحيث يعاد تشكيل العقل المسلم وتأسيس وعيه بالقرآن المجيد تأسيساً يجعله قادرا على أخذ موقعه المطلوب في حماية البشرية وحضارته اليوم". فمن هنا يُمكننا تحديد نوع التّجديد الذي نريدهُ ابتداءً؛ تجديدٌ من أصالتنا أم تجديدٌ شاردٌ عن هويتنا خارجٌ عن بيئتنا؟ وهل حقا المعرفة الإسلامية نضجت ثم احترقت كي نستورد ونقترض المعارف من خارج ذاتنا؟

التّجديد؛ لا يعني بالضّرورة الانسلاخ عن القديم وإهماله، أو استيراد إيرادي لما عليه "الآخر المُتقدّم" من حضارة مادية.. لكن للأسف هذا ما يعتقده الكثير من أدعياء التّجديد والتّحديث في واقعنا، وما يظنّه الكثير من العلماء التّقليديين كذلك، فيقع التّحيّز للثقافة الغالبة أو الانحياز الأعمى إلى التراث، ومن أبرز عوامل انحسار المد الثقافي والحضاري في الأمة كما يشير أستاذنا سعيد الشبار "هو الانقلاب الذي وقع على مستوى الوعي والفكر الاجتهادي الذي كان سائدا في الأمة في أجيالها الثلاثة وحتى عصر الأئمة المؤسسين أصحاب المذاهب، ليركن الناس بعد ذلك إلى الجمود والتقليد، حيث استكملت الفرق والمذاهب بناءها، فغدا التحيز للمقولات والتعصب لها ولو كانت مرجوحة وضعيفة السمة الغالبية في العصور اللاحقة، وسحب البساط كليا من تحت كل حركة اجتهادية تجديدية والتي غدت استثناءات نادرة بعد أن كانت أصولا مؤسسة".

ولعلّ أول خطوة للتّجديد كما ذكر الشيخ أمين الخولي؛ قتل الماضي فهماً. يقول الرفاعي في مقولة الشيخ أمين الخولي: "وكأنه يلمح بعبارته إلى أولئك المراهقين ممن لا يكفون عن التّبسيط، فيلبثون عند السطح في فهمهم للتراث، فيظنّون أن التجديد يتحقق فور نسيان القديم وتجاهله، بلا دراسة ودراية بمجالاته ومشاغله ومقولاته. مثلما يشير إلى أولئك الذين يعكفون على حراسة التراث وتقديسه، فيُنبّه إلى أنه ما لم تتحول وظيفتنا حيال التراث، من حارس للتراث إلى دارس فلا يمكننا الخروج من أنفاق الماضي وأن نكون معاصرين لزمننا.. وكلمة "قتل" تشي بأننا واقعون في شراك القديم شئنا أم أبينا، وتلك الشراك لا تفتأ تتراكم باستمرار، فتحيطنا من كل جانب، ولا سبيل للإفلات منها من دون أن تتم غربلتها.. القتل هنا كناية عن الوعي الدقيق العميق بمدارات القديم واستكشاف خرائطه، وفضاء تغلغل آفاقه في عصرنا".

لا نرفض كل ما أنتجه ويُنتجه
لا نرفض كل ما أنتجه ويُنتجه "الآخر" ما دام لا يتعارض مع رؤيتنا الحضارية وتصورنا الإسلامي، لأنّ الفكر هو عطاء إنساني متكامل يتجاوز الحدود الضيقة
 

فالتّجديدُ؛ يكون من عمق تراث الأمة ووجدانها، لتلبية ما تحتاج إليه.. لأنّ تراث الأمّة؛ تراكمٌ للتجارب والمفهوم.. ولا قيمةَ لتجديد مُستورد لا تُراعى فيه خصوصيات الأمم والشّعوب، ولعلّ الجابري كان صريحا في تحديد استراتيجية التجديد من الداخل في ثلاثة محاور مهمة:
* محور النقد الإيبيستيمولوجي لتراثنا.
* محور التأصيل الثقافي للحداثة في فكرنا.
* محور نقد الحداثة الأوروبية نفسها والكشف عن مزالقها ونسبية شعاراتها .
وهيَ محدّدات منهجية ضرورية لإضافة ما يمكن إضافته في ظل المتّغيرات الطارئة التي تحتاج إلى أحكام شرعية مستمدة من الوحي بفهم سليم.

وإن أكّدنا على أنّ أول التّجديد يكون من صلب كياننا وتراثنا، فلا ننكر أن التراث الإسلامي يعجّ بالأساطير والخرافات والأباطيل التي ظلّت دهرا تستحوذ على عقل المسلم، سواء في المنهج أو في المعارف التي تنبني على مقولات وأحاديث لا يقرّها نقل ولاعقل.. لهذا بات من الواجب تحطيمها وتجاوزها.. وتنقيته وغربلته بالاستفادة من أجزائه الحية وتفكيكها وإعادة تركيبها وطرح ما هو ميت بائد.

وفي الآن ذاته لا نرفض كل ما أنتجه ويُنتجه "الآخر" ما دام لا يتعارض مع رؤيتنا الحضارية وتصورنا الإسلامي، لأنّ الفكر هو عطاء إنساني متكامل يتجاوز الحدود الضيقة ليصبح ملكا للبشرية جمعاء، فنعمد إلى الجمع والتوفيق، وإلى منهجية التبيئة -كما ذهب الجابري- أي؛ "ربط المفهوم بالحقل المنقول إليه ربطا عضوياً، وذلك ببناء مرجعية له فيه تمنحه المشروعية والسلطة" أو آلية التقريب التداولي عند طه عبد الرحمن و"تقتضي هذه الآلية أن يسقط من المنقول كل ما من شأنه أن يصادم مقتضيات المجال التداولي الأصلي، أو أن يضعف اليقين فيما يتعلق منها بالأصل العقدي على الخصوص، أو أن يفوت تحصيل الضروري من المعارف".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:
1- طه جبار العلواني، العلوم الإسلامية: أزمة منهج أم أزمة تنزيل؟ ضمن أعمال الندوة العلمية الدولية، العلوم الإسلامية: أزمة منهج أم أزمة تنزيل؟ الرابطة المحمدية، الرباط، يومي 13-14 ربيع الثاني 1431 هـ الموافق 30-31 مارس 2010 م، ط1، ص 20.
2- سعيد الشبار، من مظاهر التحيز في العلوم الإسلامية وتأثيرها على ثقافة الأمة وعطائها الكوني، ضمن أعمال الندوة العلمية الدولية، العلوم الإسلامية: أزمة منهج أم أزمة تنزيل؟ الرابطة المحمدية، الرباط، يومي 13-14 ربيع الثاني 1431 هـ الموافق 30-31 مارس 2010 م، ط1، ص 369.
3- عبد الجبار الرفاعي، رائد الدرس الهرمنيوطيقي بالعربية الشيخ أمين الخولي، موسوعة فلسفة الدين 4: الهرمنيوطيقا والتفسير الديني للعالم، دار التنوير، ط1، ص 21.
4- محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، فبراير 2014، ص16.
5-  نفسه، ص 14.
6- طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط2005، ص 290.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.