شعار قسم مدونات

التفكير مهمة فردية وضرورة جماعية

مدونات - رجل أعمال يفكر لابتوب

يلعب الوالدان دور رئيسي في تشكيل حياة الفرد منذ صغره، فينشأ الفرد في بداية حياته معتمداً على والديه كلياً، فالطفل في حياته المبكرة واهن وضعيف أمام المؤثرات الخارجية، وليس الوالدان حصنه المنيع فحسب، بل أيضاً عقله الذي يحدد خياراته في الحياة، فيقرر الوالدان متى يجب أن يبدأ الطفل دروسه ومتى يمكنه اللعب.

 

وبالرغم من أن الفرد مع تقدمه في العمر يمتلك استقلالية في التفكير والاختيار، إلا أنه يلجاً بشكل مستمر إلى الآخرين ليستفيد من خبراتهم وينهل من تجاربهم فيسمع آراءهم ويسترشد بنصحهم، فهو كثيراً ما يعجز عن مواجهة مشكلات الحياة لوحده بخبرته الفردية المحدودة غالباً. لكن هل ما يقدمه الآخرين من نصح وإرشاد يمثل الصواب في مجابهة المخاطر وتجاوز العوائق؟ إن كل تجربة شخصية هي تجربة فردية ذاتية لا تصلح كمعيار موضوعي للاسترشاد بها. لهذا لا يجد الفرد بُداً من الاعتماد على نفسه وفكره في التعامل مع قضاياه. ويقول أبيقور ما يؤكد هذا المعنى في رسالته إلى مينيسي: "على الشاب ألا يتأخر عن التفلسف، وعلى الشيخ ألّا يملّ من تعاطي الفلسفة".

 

ومع تطور وسائل الإعلام المختلفة، أصبح الفرد يتعرض لسيل كبير من المعلومات والأفكار المتباينة والدعايات المختلفة، والتي تهدف إلى توجيهه نحو اختيارات معينة والانحياز إلى جانب دون آخر، أو اتباع سلوك معين والامتناع عن آخر. ولا يملك الإنسان في مواجهة هذا التدفق من المعلومات إلا العقل. فالعقل هو الوسيلة الوحيدة للتعامل مع المؤثرات الخارجية من خلال التفكير النقدي، للتصدي لها ونقدها والوصول إلى ما يمكن أن يكون الخيار الأمثل. والفكر في اللغة حسب ما يورد ابن منظور هو: "إِعمال الخاطر في الشيء". وهو أيضاً في المعجم الوسيط: "فَكَرَ في الأمر فَكْرا: أعمل العقل فيه ورتب بعض ما يعلم ليصل فيه إلى المجهول".

 

بالرغم من أنّ العادات والتقاليد لا تمثل ضرر حقيقي، إلا أن الدوغماتية في التعاطي مع بعض الممارسات منتهية الصلاحية تحد من حرية الفرد وتؤخر المجتمع عن الازدهار

وإذا صح الافتراض بأن التفكير هو عملية عقلية تجري في الذهن فإن أحد مدخلات هذه العملية هو المعرفة المتحصلة بالقراءة، ونظراً لأهمية القراءة ودورها في الاطلاع على آراء الآخرين دون إكراه أو فرض لوجهات نظر معينة، قد يعتقد الفرد بأن سعة الاطلاع والمعرفة قد تغنيه عن التفكير كنشاط مستقل بذاته، حيث تزوده القراءة بالأدوات والمعرفة اللازمة للتفاعل مع الحياة وحل مشكلاتها. لكن هذا السلوك يمثل تعطيل لقدرات العقل كون القراءة فعل سلبي يتلقى فيها القارئ الآراء المختلفة دون أن تحفزه على اجتراح أسلوبه الخاص في الحياة، وهكذا يصبح الإنسان مهدداً بفقدان أهم سمة فيه ألا وهي الإبداع. ويذهب شوبنهاور إلى رأي أكثر تطرفاً في وصف القراءة فيقول: "هذه الممارسة تدل على أن التعليم يجعل معظم الرجال أكثر غباء وحماقة مما هم عليه في الطبيعة، ويمنع كتاباتهم من أن تكون ناجحة" ويعلل رأيه بأن "القراءة هي عملية تفكير لكن من خلال عقل آخر بدلاً عن عقل الفرد".

 
لكن هل للتفكير حقاً فوائد تعود على الفرد تتجاوز تلك التي يحصلها من خلال القراءة؟ إن التفكير كعملية تساعد العقل على الحفاظ على نشاطه، وتنمّيه بحيث يصبح قادراً على التجريد، ومن خلال التجريد يمكنه اشتقاق القوانين السببية والتي بدورها تمكنه من استشراف المستقبل. التفكير يعمل أيضاً على تمكين الفرد من المعرفة الإنسانية رغم اتساعها وتشظيها، فيلعب التفكير دوراً مهماً كحلقة وصل بين العلوم الجزئية المختلفة لتشكيل نظام متكامل يمكن من خلاله فهم الطبيعة والعالم الذي نعيش فيه، ويرى شوبنهاور أن المعرفة التي يفكر فيها الإنسان، تدخل في نظام فكري صنعه الفرد بنفسه فتصبح جزءاً لا يتجزأ من عضو حي.

 
يوجد الفرد في مجتمع له عادات وتقاليد وثقافة معينة، وهي تمثل نظام قيمي ينشأ الفرد في رحابه، وهذا النظام لم يساهم الفرد في تشكيله، وبالرغم من أنّ العادات والتقاليد لا تمثل ضرر حقيقي، إلا أن الدوغماتية في التعاطي مع بعض الممارسات منتهية الصلاحية -خصوصاً تلك التي لا تتماشى وروح العصر ولا تعكس عراقة ثقافية- تحد من حرية الفرد وتؤخر المجتمع عن الازدهار، لذلك فإن إعادة النظر في هذه الثقافات يحتاج إلى جهود فكرية ومهارات ذهنية، لطرح المواضيع للنقاش في الفضاء العام، فالمجتمعات التي يمتلك أفرادها قدرة على التفكير والتحليل، يسودها أجواء حوار سليمة، تفضي في النهاية إلى حسم نقاط الخلاف والتمسك بنقاط التوافق، ومن ثم البناء عليها وتطوير مفاهيم تمكنهم من بناء مجتمع أفضل، أما المجتمعات التي يمتلك أفرداها قدرات تفكير متواضعة، ستتعمق فيما بينهم نقاط الخلاف وبالتالي تعدم أي محاولة للبناء في مهدها.

 
في الختام، إن التفكير عملية مهمة وضرورية لازدهار الفرد في الحياة ولتحقيق استقلاليته. وإذا كان الركون إلى الأفكار الجاهزة يمنح الراحة والطمأنينة، فإن التفكير يشكل حصن منيع يحميك من الاستغلال وإهدار الحياة، والفرد المفكر هو لبنة أساس في بناء المجتمع المتحضر الراقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.