شعار قسم مدونات

أخبار المرضى والصّابرين.. سالمة

مدونات - مريضة مرضى مستشفى

تجاعيد حول عينين كبيرتين، غارقتين في تجويفيهما، ورغم ذبول الجفنين وسقوطهما، حتّى ليخالها الرّائي مكابدة نعاسا غالبها، إلّا أنّ لون القزحيّة العسليّ يبهرك بنظرة إصرار حادّة. بادرتني بابتسامة حييّة، ويد ترتعش لتمتدّ وتلقي التّحيّة. سلّمتها كفّي الأيمن وشددت بالأيسر على ظهر يدها المرتعشة، هالني الملمس، كأرض جدباء، قحطاء، تؤذيك بنتوؤاتها وأخاديدها.
-كيف الحال؟
– الحمد لله.

  

لم أزد على سؤالي ذاك حرفا يومها، لم أقم بما عُلِّمتُه في المحاضرات: متى دخلت غرفة مريض، عرّف بنفسك، اسمك، وظيفتك، ما أنت آت لأجله، كلمات قليلة واجبة لبناء حلقات تواصل بينك ومريضك حتّى يثق بك.. هكذا عُلّمنا. هُراء! ما كُنتُ لأستذكر هذا في أوّل يوم لي في تربّصي كطالبة طبّ حديثة عهد بتواصل مباشر مع المرضى ومع مريضة كسالمة! فلولا تلك النّظرة الثّاقبة وأنفاس مسموعة تصارع حتّى تلتقطها، لظننت، أوّل ولوجي الغرفة، أنّني كُلّفتُ بجثّةِ ما يبدو أنّها امرأة ثمانينيّة، فلم يبق لسالمة من الأنوثة سوى الاسم ومن الاسم سوى سلامة الابتسامة..

  

ما سُئلت يوما عن طريقة لمعالجة كلل النّفس وفتورها إلّا ونصحت بزيارة المرضى في المشافي العموميّة، في الأقسام الحرجة، حدّثوهم، خفّفوا عنهم، آنسوا وحدتهم فكثيرون يعانون هول المرض والوحدة مجتمعين.

هيكل عظميّ متداع، غطّته أشلاء بشرة مترهّلة. لم أجد بدّا من سؤالها عن حالتها وعن سبب إقامتها بالمشفى فبالكاد تقوى المسكينة على التّنفّس. اتّخذت لي مجلسا في ركن ركين من الغرفة لأقلّب ملفّها الطّبّي الذي يزن بضعة أرطال من التّقارير والخيبات، لم تكن مريضتي ثمانينيّة كما ظننت بداية، بل هي فتاة لم تتجاوز سنتها الثّالثة بعد العشرين. أتى المرض على جسد الصّبيّة النّضر فلم يبق ولم يذر.. سرطان الرّئة ذو الخلايا الصّغيرة، أشدّ السّرطانات عدوانيّة وأسرعها في النّموّ والانتشار، شُخِّصَت به منذ سنتين وخلال السّنتين كان قد قضى على أختها ووالدها وفتك بأكثر جسدها.

 

شعرت بعجز خانق وأنا أدقّق في تاريخها الطّبّي، كيف لنفس واحدة أن تُكَلَّف كلّ هذا العناء؟ مرض طُبِعَ لعنةً في المعلومة الوراثيّة وفقر زاد الدّاء أدواء وفقدان أحبّة كان لوجودهم أن يُسِرّ عن نفسها ويؤنس وحدتها، رحماك ربّي وصبرا من عندك!
– ما وجدت ِ في ملفّي؟
ما تراني أجيبها ؟ كيف عساي أن أتصرّف في مثل هذا الموقف؟ هل تعرف علّتها؟
-أظنّهم ينتظرون نتيجة التّحاليل ليقرّروا الخطوة المقبلة في العلاج
أجبتها باقتضاب شديد محاولة اخفاء جزعي.
– هل لكِ أن تخبري الممرّضة أنّني في حاجة شديدة إلى المورفين؟
 
ناديت الممرّضة التي حقنتها بملّيلترات ممّا تحسبه سالمة مورفينا فلم يكن سوى قطرات من مصل فيزيولوجي نستعين به أحيانا حين يقارب المريض على مجاوزة، الحدّ المسموح به من أدوية مخفّفات الألم نبحث به عن تأثير الدّواء الوهميّ لتجنّب الإدمان.. لكن ما ضرّ المسكينة أن تدمنه وهي على شفا حفرة من الموت؟

أغمَضَتْ عينيها وأسلمت نفسها إلى النّوم أو ما كانت ترجو أن يكون نوما، غفت لدقائق ثمّ عادت إلى البكاء والأنين لتعود الممرّضة بحقنة المصل الفيزيولوجي لكنّ سالمة رجتها فيما يشبه العتاب الذي خالطه غضب مع قلّة حول وحيلة " أرجوك لا أريد هذا، أريد المورفين، لا هذا! أليس في قلوبكم من رحمة". أصبحت لطول تحمّلها المرض ولزومها سرير المشفى ومخالطتها المرضى والممرّضين قادرة على أن تفطن للفر.

 

undefined

 

هكذا تمضي سالمة جلّ يومها، بين عذابات تراوحها إغفاءات قصيرة أو فقدان وعي.. كيف تمضي فتاة في مثل سنّها يومها؟ بين عائلة وأصدقاء ودراسة وإن كان من نوم فهو لراحة وتجديد طاقة. لا يدرك الإنسان عظم النّعم التي يغدقه بها ربّه منذ استيقاظه مع إشراقة شمس الصّباح حتّى ركونه إلى الرّاحة آخر اليوم، العافية التي تحملنا على الحركة والفعل طيلة ساعات النّهار ليست من البديهيّات، المسلّمات، التي لن نفقدها بأيّ حال من الأحوال، والمرض يصيب الآخرين وقد يصيبنا أيضا ، " سَلُوا الله العفو والعافية ، فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بَعد اليقين خيرًا من العافية " صدق خير الأنام، عليه أفضل الصّلاة وأزكى السّلام.

عزمت على أن أخفّف عن سالمة، ما استطعت، من وطأة يومها. عدت صبيحة اليوم التّالي مدّعية بِشْرا وسرورا، سألتها عن ليلتها فحَمدت الله على كلّ حال بملامح من لم يذق للنّوم طعما.
– ما رأيك في أن نخرج؟
– نخرج؟ إلى أين؟ وكيف ؟ فأنا عاجزة عن الحركة!
– لا بأس، أحملك على كرسيّ متحرّك إلى حديقة المشفى، كم مضى من الزّمن منذ رأيت نور الصّباح وتنشّقت هواء عليلا؟
– لم أخرج من الغرفة منذ ما يزيد عن خمسة أشهر، كلّت نفسي!

لبثنا ساعة في الحديقة، أبان نور النّهار عن شيء ممّا أبقى عليه المرض من نضارة وجهها وجماله، وتورّدت قليلا وهي تدافع الحروف جاهدة لتحدّثني عن مشاريعها المستقبليّة، متى ستتزوج، وممّن وأين وعدد الأطفال الذين تنوي إنجابهم ..كانت تحاول جاهدة أن تحافظ على قبس من أمل يعينها على الصّبر أو حتّى التّصابر، المهمّ ألّا تجزع فتستلّها فوّهة اليأس من الدّنيا قبل أن ترحل جسدا عنها. واظبتُ معها على جلساتنا الصّباحيّة لأسبوع قلّت فيه مطالبتها بالمورفين وزادت ساعات نومها ليلا. لا يحتاج المرء أحيانا سوى لوجود يؤنسه حتّى يطمئنّ ويجد للرّاحة سبيلا. لم تنقذ فسحاتنا سالمة من الموت – وما كان شيء لينقذها – ولكنّ النّفس تكلّ وتعمى وما من إنسيّ عاقل يقدر على أن يجابه وحده يد الموت تقتات رويدا على جسده وروحه، لا بدّ له من رفقة، عائلة أو أصدقاء وإن شحّ الزّمن بهؤلاء فطبيب غريب يعي حدود العقاقير وحقوق النّفس ويدرك أنّ المريض لا يُختزل في مرضه بل هو كيان يطغى عليه بعد روحيّ وجب الاهتمام به و"معالجته ".

أتممت تربّصي في قسم أمراض الرّئة، وأذكر أنّني تركت سالمة تعدّ لمغادرة القسم لأيّام قليلة تلتقي فيها بعض أقاربها بمناسبة عيد الأضحى، عدت إلى زيارتها والاطمئنان عليها بعد إجازة العيد فأخبرتني الممرّضة أنّ سالمة مضت إلى ربّها يوما قبل موعد خروجها.. رحمها الله وغفر لها، أشَهِدَ أحد وفاتها؟ أذُكّرت بالشّهادة؟ ميتة الغريبة، الشّريدة تلك، لكنّها رحمة الله – أحسبها والله أعلم – حلّت بها.

ما سُئلت يوما عن طريقة لمعالجة كلل النّفس وفتورها إلّا ونصحت بزيارة المرضى في المشافي العموميّة، في الأقسام الحرجة خاصّة، حدّثوهم، خفّفوا عنهم، آنسوا وحدتهم فكثيرون يعانون هول المرض والوحدة مجتمعين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.