شعار قسم مدونات

عامٌ دون قضيّة!

blogs سجن

لا أعلم بالضبط كم عدد الأيام التي من المُفترض أن يقضيها من هو مُتهمٌ في قضية ما -على ذمّة التحقيق- في بُلدان العالم الخارجي، كنتُ دومًا أظن أن تلك الأمور القضائية لا تأخذ وقتًا وأن التحقيقات عادة ما تسير على وجه السرعة، حتى إذا ما تبين موقف المتَهم، حُكم عليه أو أُطلق سراحه وذلك وِفقَ ما تراه عدالة المحكمة! لكن أن يظلَ إنسانٌ عامًا كاملاً بالتمام والكمال -وهذا العام قابلًا للزيادة- سجينًا على ذمّة التحقيق دون قضية واضحة ودون أي دليلٍ يُثبت إدانته، هذا والله الذي لم أكن أعلمه ولم يخطر لي يومًا ببال.

كيفَ يقضي شابٌ عشرينيٌ لم يُجاوز الصبا بعد، عامًا كاملًا في محبسه دون أي قضية واضحة! كيفَ هو فؤادُ أمه، وماذا إذًا عن حالِ قلبها!، ويكأن لسانُ حالها يردد "بأي ذنبٍ أُخذَ صغيري منّي، وأيُ شيءٍ فعلَ ليُلقى به في السجن". كيفَ هو شعورُ أبيه، وابنًا له عامًا كاملًا في غير جلبابه، لا يراه إلا ربما كل شهرين، في زيارة لربما مُدتها ساعة واحدة لا ينهض خلالها أن يتفحص ملامح ابنه الغائب عنه الحاضر أمامه.

"بنيّ، كيف حالك وماذا عنك، ماذا عن طعامك وشرابك، ماذا إذًا عن نومك وملبسك، كيف يمر يومك وكيف هي الأمور عندك، أرجو أن تكون بخير.

أبي – باكيًا – إني بخيرٍ لطالما كنتم بخير، ماذا عن أمي وإخوتي، وأهلي وجيراني، وصُحبتي وخلّاني، أبلغهم منّي السلام وأوصهم لي بالدعاء، وستجدني إن شاء الله صابرا، وإني بخير.

انتهت الزيارة، سلامٌ من الله عليك وإليك يا بنيّ، سلامٌ عليك يا أبي!"

لا أظنُ أن الحوار يخرج عن سياق هذه الكلمات الممزوجة بفواصلٍ من البكاء الحار من كلا الطرفين حتى ملّ الزائر والمزور.

ورودٌ وعطرٌ يا صديقي من هنا إلى حيث تسكن، ويدٌ من لطف تُربت على قلبك أن كل شيء سيكون على يُرام
ورودٌ وعطرٌ يا صديقي من هنا إلى حيث تسكن، ويدٌ من لطف تُربت على قلبك أن كل شيء سيكون على يُرام

صديقي، الذي كتبتُ عن تفاصيل اعتقاله ها هُنا منذُ عام، ها هو في -الثامن عشر من مارس- من عامنا يُكمل عامه الأول في السجن -وأرجو أن يكون الأخير- دون قضية، دون ذنب، ودون فعلٍ يُعاقب عليه. وصدقني حين أقول لك أنّ كل ذنبه أنه لا ذنب له، وكل ما فعل أنه لم يفعل شيء، وكل جرمه أنه مُحبٌ لوطنه، وما ملّ الدفاع عنه، ومن الواضح أن السجن عقوبة رادعة لكل من تُسول له نفسه أن يُحب وطنه، ومن أين ستأتي الحرية في وطنٍ مجرموه أحرار!

لم يخطر بباله أنه سيُزَجُ يومًا إلى السجن، ولم تُحدثه نفسه بذلك، جُلّ ما كان يشغله هو دراسته، ولم يكن يعرف سواها، حتى حال السجن بينه وبينها، وهي الدنيا تُظهر لنا وُدها وتُبطن لنا في طويتها ما تُبطن. كان الأول على الصف في عامنا الجامعيّ الأول، وها نحن ذا في عامنا الثالث وهو لم يكُمل عامه الثاني بعد! 

أيّ صديقي، أعلم أن كلماتي لن تصل إليك، وستضل حتمًا الطريق الموصلة إليك كما عودتنا، وليس من شأن مقالٍ أن يُبرأكَ، ولكني أكتب إليك حتى لا يُقال أني نسيتك أو أني مللتُ الكتابة إليك، أكتب إليك عسى أن أجدك بين كلماتي، أكتب إليك علّنا نلتقي. كُنّا نشتاق إليك وأنت بيننا، فكيف بنا وقد حال السجنُ بيينا وبينك!

"فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ". أرجو من الله أن تكون ممن احتضنتهم هذه الآية بدفئها وطمأنينتها وبردها وسلامها، أن تكون ممن اصطفاهم الله وأحبهم فلم يزدادوا مع البلاء إلا صبرا، هُم كيعقوب حال فقده يوسف -عليهما السلام- لم يزدد مع البلاء إلا محبة لله واستشعارًا برحمته. "عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا".. عسى الله أن يأتينا بك وأن يجمع بيننا وبينك، هو عليه هيّن، وما ذلك عليه بعزيز.

ورودٌ وعطرٌ يا صديقي من هنا إلى حيث تسكن، ويدٌ من لطف تُربت على قلبك أن كل شيء سيكون على يُرام، وصوتٌ نديٌ يهمس في أذنك أن النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا، وسلامٌ إليك وعليك يا صديقي، والمجدُ لك، وإنّا بخير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.