شعار قسم مدونات

د. أحمد خالد توفيق.. وآخر بقايا الأمل

مدونات - أحمد خالد توفيق

يوم رحلت رضوى عاشور عن عالمنا كنت صاحبةَ ما يقل عن عقدٍ ونصف، تحديدًا؛ ثلاثة عشر عامًا، طفلة لا تعي معنى أن تبكي لفقد من لا تعرفه حقًّا، لكنك تعرفه أكثر من الجميع من خلال ما كتب. كنت أحب كتابات رضوى ولست أعرف عن شخصها شيئًا، لم أذق مرارة فقد رضوى إلّا عن قريب، عندما اقتربت من حياتها، وأحسست بلطفها ودفئها المعتاد من خلال أحاديثها المسجلة أو أعمالها. حين أدركت أنها لن تكون هنا يومًا ما في المستقبل البعيد فيكون بوسعي أن أريها شيئًا من نصوصي العابثة فتخبرني رأيها وتهذّب شعث كتاباتي، وحين أدركت أنني لن أسمعها أمام مرأى عيني تقول عننا: "أبنائها الحلوين".

 

في صباح الأمس، كنت أتناقش مع مجموعة قرَّاءٍ عن كتابات أحمد خالد توفيق، واليوتوبيا، قلت لهم أتمنى لو ألقاه يومًا، بشيءٍ من مرارة لم أعرف سببها، ودار في خلدي أنني دائمًا ما أتمنى بعد فوات الأوان. وفي المساء وبعد أن كان النوم قد أخذني لبقية النهار، أرسلت لي صديقتي على الواتسآب: "أنا آسفة إني هقولك كدا، بس د. أحمد خالد توفيق في ذمة الله" لم أصدق، لن أصدق، لطالما تنتشر الإشاعات عن وفاة أحد المشاهير ثم تُكذّب، هذا معروف. وأنا في طور الصدمة، قمت بفتح حسابي على فيسبوك سريعًا، وجدت الصفحة الرئيسية كلها تنعي "العرّاب"، كلكم كاذبون، تلك شائعة، كفاكم عبثًا، كيف تقولون أنّه مات؟ الكتّاب لا يموتون.

 

حتى وجدت أصدقائه المعروفين يؤكدون الخبر، بكيته بكاء له وبكاء لرضوى عاشور، التي لم يسمح لي الزمن ساعتها بأن أحزن عليها كما ينبغي فظلّ الحزن دفينًا في صدري لا يغادرني، ويُثقِل عليّ سماع اسمها إلّا وقد أصابتني رجفة وغصّ حلقي. قلت في نفسي هذا كان آخر ما تبقى لنا من أمل، إن غابت رضوى وأحمد فمن سيحكي لنا؟ من سيهاجم الواقع الذي ضاق علينا ويأسف لحال جيلنا الضعيف الواهن الذي ابتلعته السياسة رُغمًا عنه، من سينعي الشهداء في وقتٍ صار فيه كل الكتّاب المعروفين -في مصر خاصةً- لا يجيدون إلّا التطبيل والعزف على أوتار الطغاة؟

 

رحلت أيها الغريب، أحمد خالد توفيق، وهل يُعقل أن يرحل "الغريب" إلّا وبكاه كل الغرباء من بعده؟ رحلتِ يا رضوى وتركت شبابك "الحلوين" قلوبهم وجلة من هذا المرار

يقولون من حولي "اللهم آنس وحشة د. أحمد" أقول مثلهم، وفي داخلي أسأل الله أن يؤنس وحشتنا نحن، الفقد ثقيل، الفقد ثقيل. وأتذكر يوم نعى "مريد البرغوثي" السيدة رضوى في قصيدته "افتحوا الأبواب لتدخل السيدة" وقال في آخرها: "أثقل من رضوى، ما تركتنا له وما تركته لنا" وأثقل من أحمد، وأثقل من كل الذين كانوا فرجة الضوء في عتمةِ ربيعنا الذي حلمنا أن يُزهر يومًا، لكنه كان ربيعًا ذابلًا دائمًا.

 

هذا الجيل يتعلق بقشّة، وتقصمه قشة، هذا الجيل الذي ارتكن إلى كتابات رضوى عاشور وأحمد خالد توفيق ليطمئن أنه ليس وحده في مواجهة طوفان الظالمين، ليدرك أن ثمة من يدافع عنه بقوة، ويهزّ عرش الاستبداد بحدِّ الكلمة، من ثم راحت السيدة وراح العرّاب، وبقينا نحن. ماذا كنا لنفعل من بعدهم؟ لم يرحل الطيبون؟ ليس سخطًا، لكن لم يرحل الطيبون ويتركون المتخبطين أمثالنا في مواجهة عالم لا يرحم؟ هل شقّ على د. أحمد أن يبقى وحكايته عن عالم "اليوتوبيا" يتحقق شيئًا فشيئًا؟

 

رحلت أيها الغريب، أحمد خالد توفيق، وهل يُعقل أن يرحل "الغريب" إلّا وبكاه كل الغرباء من بعده؟ رحلتِ يا رضوى وتركت شبابك "الحلوين" قلوبهم وجلة من هذا المرار، لو كنتِ هنا يا رضوى لربما كنت ربتِّ على أكتافنا وقلت لنا "لا بأس عليكم" لكن البأس شديد، وكنت ستقولين بعدها بالطبع: "تركتم لا لتبكوا بل لتنتصروا"، لكننا سنبكي، وربما -يومًا- ننتصر.

 

"وداعًا أيّها الغريب، كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة.. عسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيرًا. وداعًا أيها الغريب، كانت زيارتك رقصة من رقصات الظلّ.. قطرة من قطرات الندى قبل شروق الشمس.. لحنًا سمعناه لثوانٍ من الدغل.. ثم هززنا رؤوسنا وقلنا أننا توهمناه. وداعًا أيها الغريب" أسطورة حامل الضياء- أحمد خالد توفيق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.