شعار قسم مدونات

أبنائي.. لا أريدكم مثلي!

مدونات - أم وابنتها
 
لا زلت أذكر جملة جدتي والتي كانت تقولها لي كلما زرتها: "أنت طالعة لأمك".. كنت ابتسم خجلاً وفرحاً لأنني أشبه أمي التي امتلأ قلبي وعقلي حباً لها بل وفخراً بما تصنع في حياتها. فهي تستيقظ باكراً لتأخذني أنا وأختي الكبيرة إلى بيت جدتي في حي السيدة زينب وتتركنا هناك لتذهب إلى عملها، حيث كانت تعمل في وسط البلد وعندما ينتهي عملها تعود لتأخذنا إلى بيتنا في حي المعادي. تلك الرحلة الشاقة التي تفعلها كل يوم دون كلل أو ملل، إلى أن أصبحنا في سن دخول المدارس وهنا اختلف الروتين اليومي.
 

كنت أتمنى حقاً أن أصبح مثلها، وكنت منذ نعومة أظافري أتشوق لأن أكون أماً، واخترت اسماً لدميتي التي اعتبرتها ابنتي لتكون سامية. أما صديقات أمي في العمل، فقد كن يقولن أنى أشبهها في الملامح، وكررن مجاملتهن الشهيرة بأن أمي جانبي كأنها أختي، وكنت أيضاً أسعد بذلك لأن أمي جميلة إذن فأنا جميلة! وعلى جانب آخر كانت أختي نسخة أبي، فهي تشبهه في الملامح والطباع كما أخبرها الكثير آنذاك، أصبحت المعادلة عادلة بالنسبة لي نوعاً ما في البداية، فنحن أختين وكل واحدة تشبه أحد.

 

لتتلخص الحياة عندي، أو بمعنى أدق -كما توهمت- أن هناك جينات وراثية تكسبنا سلوكيات وصفات من الأهل بشكل إجباري ولا خيار لنا أو لهم فيها، فأنا شخصية حساسة مثل أمي، أخذت منها جينات الحساسية؛ فأصبحت أتصرف بشكل قريب من تصرفاتها، أعتذر كثيراً للآخرين، لا أستطيع أن أطلب من أحد خدمة، لا يمكنني رفض طلب من أحد، أخشى أن أؤذي مشاعر الناس حولي وأبغي رضاهم، هكذا تفعل أمي وهكذا أفعل أنا!

 

الخوف الذي عشش داخلي سنوات عمري من أمور كثيرة، خشيت أن يأخذه أبنائي مني، فلم أمنعهم من الألعاب الترفيهية المرتفعة أو السريعة، ورغم خوفي من المرتفعات وجدتهم يستمتعون بكل ما هو مرتفع!

ويوماً بعد يوم ترسخت داخلي حقيقة أن صفاتي الشخصية إما مكتسبة وراثياً أو مكتسبة سلوكياً من التربية ولا مجال آخر، أصبحت على يقين أن الأبناء لا بد أن يكونوا كالآباء! لذا كنت أتساءل مع المتسائلين: كيف يكون الأهل صالحين والابن شقي؟ وكيف يكون الابن بار والأخ عاق؟! وكأنها حتمية بديهية من بديهيات الطبيعة تسلم بأن الأسرة الواحدة تشبه بعضها البعض، فإذا كانت الأسرة ملتزمة دينياً وأخلاقياً يأتي الأبناء على شاكلتهم، والأسرة المتحررة صاحبة شعار "اللي عايز حاجة يعملها" يأتي أطفالها كذلك متحررون..

 
وضعنا الناس في قوالب جامدة وأطر ذات قوائم حادة، غافلين أننا خلقنا مختلفين، مبدعين، ولا توجد نظرية بشرية يمكن تعميمها وقياس الناس عليها كما نفعل في علم الكيمياء والفيزياء!

 

كبرت وتغيرت المعادلة تماماً، فالناس أصبحوا يقولون أنني مثل أبي وأن أختي مثل أمي!! أصبحت أشبه أبي في الملامح، كما أصبحت أشبهه في الطباع، ظننت أن الناس قديما قد أخطأوا في التقييم، كما قد يخطئ الطبيب في تشخيص الحالة! لم أكن أعلم أن الخطأ يكمن في الافتراضات المسبقة التي جعلتنا مجرد استنساخ من الآباء دون حول منا ولا قوة، وهذا بالطبع لا ينكر تأثير التربية والنشأة في تكويننا ومعتقداتنا. ربما هذا ما أتمناه وليس الحقيقة، وخاصة بعدما أنجبت أطفالي الثلاثة، وقد دعوت الله أن يصبحوا مختلفين، يصبحوا هم لا نحن، أن تصبح شخصياتهم فريدة لا تشبه أحد، وحتى لا يتكسبوا صفات (سلبية) مني، طوّرت من نفسي قدر المستطاع -اشتغلت عليها- كما نقول. فالخوف الذي عشش داخلي سنوات عمري من أمور كثيرة، خشيت أن يأخذوه مني، فلم أمنعهم من الألعاب الترفيهية (الملاهي) المرتفعة أو السريعة، ورغم خوفي من المرتفعات وجدتهم يستمتعون بكل ما هو مرتفع!

  

وقررت أن أشتري قطا في البيت، رغم استحالة ورود فكرة الاقتناء لخاطري يوما، ومحاولة استبعادها دائماً، ورغم (فوبيا القطط) التي أعاني منها منذ الصغر، اقتنيت قطاً من أجلهم، حتى يطمئن قلبي أنهم لا يخافون الحيوانات! ولأن ابنتي كثيرة البكاء والاعتذار، يقول زوجي إنها مثلي، وأستنكر أنا ذلك وكأنني أرى سيناريو معاد لطفولتي، الفرق هو أنني أرفض أن يتكرر وأحاول مقاومته وكأنه عدوا!

  undefined

 

أتكلم مع ابنتي كثيراً ألا تكثر من الاعتذار -عمال على بطال- وأن كلمة آسف يجب أن تقال في المكان الصحيح ولمن يستحق ذلك، وطالما تمنيت أن أحكي لها قصتي، وكيف تعوّدت على الاعتذار حتى أصبح عادة أكثر منه معنى! ورغم اجتهادي ألا يكتسبوا مني القبيح، إلا إنني سئمت ذلك! فليتصرف كل منا بطبيعته. فلا داعي لإخفاء دموعي وقت ضعفي، فلا تعارض بين البكاء والقوة، والتسامح مطلوب ولكن لا يعني أننا لا يمكننا أن نبتعد حين نتأذى أو تنجرح مشاعرنا من الآخرين.

 
ولا علاقة بين الطاعة والبر وبين رفض تنفيذ الأوامر حين يقول الطفل (لا)، أنانيون نحن حين نظن أننا يمكننا "تشكيل" أبناءنا كما نريد، أو كما كنا نريد أن نكون! فهم كيان منفرد، هم روح وحياة، لهم أعين تشبه أعيننا ولكن لا ترى ما نشاهده وما يلفت انتباهنا، لهم رأس تشبه شكل رأسنا ولكن لا تفكر مثلنا ولا بالضرورة أن يحكمهم نفس المنطق في تناول الأمور.

  

لذلك في كتب التربية تجدهم يقولون: "قبل أن تعاقب طفلك حاول أن تضع نفسك مكانه وتفكر مثله، لكي تفهم لماذا فعل ذلك الخطأ، ستجد أنه في الغالب لم يقصد فعله بهذا الشكل". لذا سيكون ظلماً بيّناً إن أردنا لأبنائنا أن يروا الدنيا بأعيننا، فلندعهم يكبرون وينضجون بإشرافنا لا بأوامرنا، فليبقوا أحراراً خارج أسوار تحكّمنا وقيودنا الأبوية وليشكلوا هم بأنفسهم شخصياتهم، وليختاروا مسارهم في الحياة فهم من يسيرون فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.