شعار قسم مدونات

المقاطعة ودمقرطة الاقتصادات الوطنية

مدونات - المقاطعة

بدأت في الآونة الأخيرة حملات شبابية تدعم توجهات لمقاطعة بعض المنتوجات الصناعية والغذائية بعدد من الدول ، حدث ذلك في الجزائر في حملة "خليها تصدي" ويحدث الآن في المغرب تحت شعار "خليه يريب"، إشارة إلى منتوج الحليب لإحدى الشركات المسيطرة في السوق المغربية، ويعد أسلوب المقاطعة من الأساليب الاحتجاجية الحضارية، وقد أتاحت مواقع الاتصال الجديدة للشباب فرصة مواتية لإعادة استعمال هذا الأسلوب الاحتجاجي بهدف التنبيه لغلاء أسعار بعض المواد، وأيضا بهدف المطالبة بدمقرطة اقتصادات الدول، لأن الغلاء الفاحش والزيادات غير المبررة في الأسعار، والتلاعب في الأوزان والمكونات، وغيرها من الأساليب الفجة التي لم تعد تتورع الشركات الجشعة في استخدامها لمزيد من الأرباح ولو على حساب صحة المواطن من جهة، وقدرته الشرائية من جهة ثانية.

 

كل ذلك أدى إلى غياب التنافسية، والهيمنة والاحتكار واستغلال الثروات الطبيعة والوطنية بلا رقيب أو حسيب، واستغلال اليد العاملة الوطنية بشكل بشع. من طرف المتنفذين في عوالم الاقتصاد والسياسة، في تحالف رجال الثروة والمال والمنتفعين من الدوائر السياسية والإعلامية وغيرها. وعودة إلى المقاطعة التي تجري أطوارها في المغرب، فقد استهدف الشباب ثلاثة شركات تنتج منتوجات أساسية وهي الماء والحليب والمحروقات، ويعكس هذا الاختيار ذكاء النشطاء لأن هذه المنتوجات عموما حولها نوع من الإجماع فيما يتعلق بالمبالغة في أسعارها، وكذا كونها شركات كبرى تتحكم في مفاصل الإنتاج وتفرض الأثمنة، إضافة إلى كونها مرتبطة بوزراء ورؤساء أحزاب وكبار الباطرونا في المغرب، وكبار المنتفعين من اقتصاد الريع.

 

الزمن قد تغير، وإن الدولة يجب أن تراعي دورها بوصفها حكم، يسعى لتحقيق التوازنات المطلوبة في المجتمع، فلا يمكن تحقق ديمقراطية سياسية في ظل اقتصادات مبنية على الفساد والريع والاحتكار واستغلال النفوذ والسلطة

وقد عمل الشباب المتحمسون لهذه المقاطعة على إجراء مقارنات للأسعار بين المغرب وغيره من الدول، كما تتبعوا الأرقام والأرباح الخيالية التي تحققها هذه الشركات سنويا، كما لم يغب استغلال بعض المستثمرين لقربهم من السلطة وتواجدهم في مؤسسات الدولة كوزراء أو رؤساء مؤسسات معينة لمناصبهم لتمكين وتنشيط استثماراتهم، ولا أدل على ذلك من قانون المقايسة المطبق فيما يتعلق بالمحروقات، والذي ينفذ بشكل معاكس تماما لما وضع له، فيما تبقى الحكومة صامتة وعاجزة لأن الملاك أعضاء في الحكومة ذاتها.

 

وفيما يستمر المقاطعون في مقاطعتهم يبدو أن سخونة الوضع والتأثيرات السلبية والرسائل بدأت تصل لمن يهمم الأمر، ولذلك بدأت بعض التصريحات المتسمة بالانفعال تصدر من جهات حكومية ومن الباطرونا، ففي تصريح غريب لوزير المالية وهو في نفس الوقت ينتمي لحزب يرأسه أحد الباطرونا، وصف الوزير المقاطعين بالمداويخ، الأمر الذي استهجنه كثير من المواطنين، واعتبروه مخلا بالاحترام الواجب للمواطنين، ويفتقد للباقة ويعكس انحطاط خطاب مستعمل هذه العبارة القادحة تجاه مواطني دولته، وأضاف نفس الوزير في سياق دفاعه عن الشركات، أن هذه الشركات مهيكلة ومهيكلة، وتدفع الضرائب، معتقدا أنه بهذا القول قد اكشتف أمريكا، متناسيا أن المواطنين يدفعون أيضا الضرائب عن القيمة المضافة في كل المنتوجات التي يستهلكونها، وأصبحوا تحت وطء الزيادات غير المبررة، فئات مهلوك أيضا.

 

وفي ذات السياق صرح وزير الفلاحة ورجل الأعمال الذي يمتلك بعض الشركات المستهدفة بالمقاطعة، أن الأمر يتعلق بآلاف العمال المستخدمين لدى هذه الشركات وقوتهم اليومي، وبطبيعة الحال مسرورين جدا لاهتمام الوزير بهذه الفئة وندعوه بمناسبة الأرباح الخيالية التي يساهمون في تحقيقها لشركاته، أن يبادر لتحسين أوضاعهم والزيادة في أجورهم وتمتعيهم بكافة الحقوق التي تنص عليها التشريعات الوطنية والدولية، وقد اعتبر الوزير أن هناك فرق بين العالم الافتراضي والواقعي، واعتبر أن المقاطعين يلعبون، وهو ليس مهتم بألعابهم، وأخاف أن يكون هذا التصريح مثل تصريح الوريث المفترض لمبارك عندما خاطب الشباب المصري بقوله خليهم يتسلوا، فالاستخفاف بالأمور ليس حلا وتقدير المخاطر من ذكاء رجال الأعمال. وغير بعيد عن هذا الجدل طلع على المتتبعين مدير إحدى الشركات المعنية بالمقاطعة، واصفا المقاطعين بأنهم خونة، وهو بهذا يضع نفسه خارج أخلاقيات المقاولة، بل وخارج التاريخ، ويجلي لنا كيف أن إقتصادات دولنا يسيرها تافهون، ولجوا عوالم المقاولة بمنطق باك صاحبي، وإلا كيف يبيح أحدهم لنفسه مصادرة حق المواطنين في شراء منتوج أو الإحجام عن ذلك.

 

وختاما فإن الزمن قد تغير، وإن الدولة يجب أن تراعي دورها بوصفها حكم، يسعى لتحقيق التوازنات المطلوبة في المجتمع، فلا يمكن تحقق ديمقراطية سياسية في ظل اقتصادات مبنية على الفساد والريع والاحتكار واستغلال النفوذ والسلطة، ولا يمكن تحقق الاستقرار وهو المطلب العزيز في ظل دول مشتعلة في المنطقة، إلا بمراعاة قوت المواطن وقدرته الشرائية، وتجاوز كل مسببات الاحتقان الاجتماعي، وعلى الوزراء والمسؤولين التمييز بين مواقعهم ومناصبهم كوزراء، ومواقعهم كرجال أعمال، أو أعضاء أحزاب، إذ لم يعد مقبولا استمرار هذه الازدواجيات المقيتة، من أراد المقاولة فأرض الله واسعة، ومن أراد مجد رجالات السياسة فعليه خلع قبعة المقاول.

 
ونقول للمقاطعين إن الأسلوب الحضاري الذي تمثله المقاطعة، لكونه يتعارض مع العنف والتخريب والمس بحرية العمل وغيرها من الأساليب المرفوضة، يمثل درسا أخلاقيا واجتماعيا يجب تعميقه في مجتمعاتنا عبر التكتل في جمعيات حماية المستهلكين، وعلى صحافتنا التي لازالت في غالب الأحيان بعيدة عن هموم الناس والبسطاء منهم بالخصوص الانخراط في رفع منسوب الوعي، عبر تقديم معلومات عن مصادر الثورة التي يحصلها عليها البعض، وكذا عن الأرباح الخيالية للشركات، وكشف أشكال التلاعب العقول التي تنهجها بعض الشركات الوطنية والأجنبية، وهذا كله خطوات على درب دولة تحفظ كرامة المواطن، ويفضي بنا لبناء مقاولات مواطنة، وإعلام مواطن، ومواطنين حقيقة يساهمون في النقد والبناء وتصحيح الاختلالات ويضربون يد المستغلين ويناصرون المستضعفين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.