شعار قسم مدونات

رواية "الحي الخطير".. بنميلود يعيد لأدب الهامش سحره وجاذبيته

blogs الحي الخطير

لا يمكن للقارئ -وهو يتصفح الصفحات الأولى من الرواية- إلاّ أن يسقط في فخ مقارنتها مع روايات أخرى تعالج نفس الموضوع وتسبح في نفس العوالم؛ عوالم الهامش والأحياء الخلفية للمجتمع المغربي، حيث التمرد على كل شيء، وفوضى في كل مكان، والانتقال من النص الأصلي نحو متون روائية أخرى، لأن الأحداث والفضاءات قد تتشابه، لكن القارئ المتمرس سرعان ما ينتبه أنّ العمل لا يشبه غيره من الأعمال السابقة حتى وإن عالج نفس المواضيع.

 

فاللغة المستعملة عارية من كل الأقنعة الأخلاقوية والنحوية التي ألبسها إياها "فقهاء النحو"، والكلمات التي يوظفها الكاتب يغرفها من قاموس خاص به، وحتى إذا اختلط الأمر بداية أو انطلاقا من العنوان، فسرعان ما تعيده مفردات بنميلود وروحه التي ترفرف فوق الصفحات وهي ترتدي "شورطا" صيفيا في كل فصول الرواية وفي يدها نصل بنصف قبضة متعدد الاستعمالات، وبين صفحة وأخرى تطلق ضحكة مجلجلة.

يستهل الكاتب روايته بجملة شهيرة للروائي العالمي كافكا "الخروج من البيت مغامرة خطيرة"، وهي جملة تتناسب بشكل عميق مع أحداث الرواية، لأنّ الخروج من البيت في الحي الخطيرة مغامرة محفوفة بشتى أنواع المخاطر، ولذلك يكون الهروب تمردا على كل أشكال الخضوع والاستسلام، وفكرة الهروب مركزية في الرواية؛ ولها دلالة فلسفية عميقة ترتبط بعدم الخضوع لأمر الواقع ولقوانين الدولة غير العادلة والهروب من الهامش ومن كل أشكال القيود.

 

الرواية تمرد على الجميع ومجابهة للسائد، لعب على حبال المخاطرة نشدانا للاشيء، تمرد ضد الثقافة المؤسساتية المحنطة، ضد المخزن والبوليس والسلطة كيفما كانت طبيعتها

لذلك فالرواية تبدأ بتخطيط مراد (البطل) للهروب من السجن، وتنتهي دون أن يستطيع ذلك، لكنّ الإنسان لا ينبغي أن يتوقف عن المحاولة أبدا، فالإنسان حي لكي يهرب فقط، ولكن أعتقد أنه عوض جملة كافكا التي انطلق منها، كان حري بأن يكتب أيضا، منبها القراء؛ وخاصة المؤمنين منهم، "لا يمسها المطهرون"، لأنه منذ الصفحات الأولى سيفقد القارئ وضوءه وطهارته، وربما يفقد إيمانه بعد ذلك؛ إيمانه بالدين، بالسلطة، بالدولة، بالأخلاق، وبكل شيء.

 

فالمواضيع التي يعالجها الكاتب، بجرأة كبيرة، مرتبطة ارتباطا بنيويا بـ "هامش المجتمع المغربي وأحياؤه الخلفية، "تجارة الحشيش، الدعارة، اللصوصية، العصابات الصغيرة، الأمهات العازبات، الهجرة القروية وإعادة إنتاج الفقر والبؤس بأحزمة العاصمة، كل ذلك يرصده بلغة الهامش وكلمات مسننة قد تسبب ندوبا مزمنة على وجه القارئ الهش ثقافيا وفكريا، فمحمد بنميلود محترف في الكتابة بالمتلاشيات وبقناني الويسكي المهشمة على هامش الحياة بالأحياء الفقيرة والكاريانات التي تعد التجسيد الفعلي لمفهوم "الهامش"، كما أنّ المطاردات بين عصابات الشعبة وجبل الرايسي، عكراش وأرض ميساوة فيما بينها وفي مواجهة رجال الأمن والدرك قد تدوس-في أي لحظة/صفحة- على تصورات هذا القارئ الساذجة للعاصمة وللدولة والسلطة.

فالرواية تمرد على الجميع ومجابهة للسائد، لعب على حبال المخاطرة نشدانا للاشيء، تمرد ضد الثقافة المؤسساتية المحنطة، ضد المخزن والبوليس والسلطة كيفما كانت طبيعتها؛ دينية، سياسية، تقليدية أو غيرها، تمرد على الذات أيضا، تمرد على الكتابة الرتيبة والمحايدة، فالكاتب يعلن منذ بداية روايته أنه اختار الانحياز صراحة، وبشكل سافر ومباشر، للهامش والقاع الاجتماعي، أن ينتصر للمهمشين في هذا المجتمع الذي يعتبر هو واحدا منهم، عابثا ومستهزئا بلغة الصالونات الأدبية الرتيبة المتوارثة بشكل مسكوك، كما أنها نقد للأسس الأخلاقية للمجتمع المغربي، وقلب للقيم الدينية والاجتماعية، "إنها ثورة حقيقية في مجال الكتابة الروائية بالمغرب." 

تميزت الرواية بإبداع قاموس خاص بها، فقد أبدع بنميلود توظيف الكلمات الدارجة التي يستعملها المغاربة في تواصلهم اليومي، وخصوصا في الأحياء الهامشية والسفلى، إنه قاموس خاص يناسب طبيعة الموضوع والمحيط والشخصيات، فقد نجح الروائي بنقل لغة الهامش إلى النص الروائي ببراعة حرفي أصيل "بوستيرات، الغلاي، البولة، الطابلة، لمبات، كاسرولة، "عكر لي".. في محاولة لتقعيد الدارجة وتأصيلها نحويا، لأنه لا يمكن وصف المعنى الدقيق بكلمات الفصحى عن استعمالات تحدث في قاع المجتمع حيث الأمية ضاربة في بنية المجتمع هنالك.

 undefined

فالطابلة لا يمكنها أن تكون طاولة أبدا، والبولة لا يمكنها أن تكون مصباحا، والشرفة لا يمكنها أن تكون بالكونا، وغير ذلك من الكلمات والمعاني المرتبطة بها، وله في هذا الاستعمال تبريراته المنطقية والمعقولة، فبعض الكلمات لا يمكن ترجمتها وإذا قمنا بذلك فإنها تفقد معناها بشكل جزئي أو كلي، وبالتالي لن تفي بالغرض ولن تسعف في إيصال الصورة الموجودة في ذهن الروائي إلى القارئ، وهو الذي احترف الرسم بالكلمات، لدرجة أنّ الصورة التي يريد تبليغها تتجسد في ذهن القارئ (كذئب مطرود من القرى ص 144، أنا ورشيد وعبد الرحمن وصبية آخرون قد نبتنا هنا كدوم الهضبة منذ الأزل ص 149، لكنه تعقل واستقام بخفة ورشاقة قط ضاجع قطة؛ ص 148،كما تتشرب الإسفنجة أوساخ المطبخ؛ ص 21…) وغيرها من الصور البلاغية والشعرية التي يرسم بها المعاني التي يريد إيصالها.

يقول المختصون في النقد الأدبي، بأنّ النقد ينبغي أن ينساب ويتسلل إلى النص من أصغر الشقوق، شخصيا لست ناقدا، بل مجرد قارئ يسجل انطباعه حول عمل أعجبه، أمّا صاحب هذا النص فهو الذي يتسلل إلى المجتمع المغربي من أضيق الحارات والأحياء الخلفية، ومن أصغر تناقضاتنا اليومية، سواء على المستوى السياسي؛ من خلال تشريحه لطبيعة السلطة السياسية في المغرب القائمة على أسس تقليدية تتمثل في جهاز المخزن والقبيلة والزاوية (معتبرين أنّ الدولة ليست سوى قبيلة كبيرة والملك شيخها، إلاّ أنه شيخ مقدس أكثر من شيخ قبيلة صغيرة، بل تقارب قداسته، وهيبته، واستحالة رؤيته بالعين المجردة ولمسه، ومقامه العالي الله تقريبا.. ص 133) أو على المستوى الاقتصادي؛ من خلال إبراز التناقضات والمفارقات الصارخة بين أحياء عكراش ودوار الدوم الفقيرة والمهمشة وأكدال وغيرها من الأحياء الراقية بالعاصمة الرباط التي بالكاد يعرفها سكان الأحياء الهامشية (..حادة التي امتهنت التسول في حي راق إسمه أكدال: ص 147).

 

وعلى المستوى الديني؛ من خلال رصد مفارقات التدين عند الإنسان المغربي، حيث يظهر كائنا مزدوجا ومركبا، من خلال الجمع بين التدين والانحراف (خصوصا عند بداية كل رمضان حين كانت تنتاب الحي كاملا موجة مفاجئة من الإيمان الغامض وامتلاء جامع الحي عن آخره كل تراويح: ص 151)، إنه نقد جارح وتوصيف عارٍ لحالنا، لأوضاعنا السياسية ولعلاقاتنا الاجتماعية ولحياة المغاربة بلغة واضحة وبسيطة يفهمها الجميع، رصد سوسيولوجي دقيق للتغيرات الكبرى التي لحقت المجتمع المغربي في بنيته السياسية، الاجتماعية والقيمة منذ نهاية القرن الماضي إلى اليوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.