شعار قسم مدونات

ويُطفأ القمرُ في دمشقَ فلسطينياً

Residents wait to receive food aid distributed by the Al-Wafaa campaign at the Palestinian refugee camp of Yarmouk, south of Damascus April 1, 2014. REUTERS/Rame Alsayed (SYRIA - Tags: POLITICS CIVIL UNREST CONFLICT SOCIETY)

قد كان لليرموك نصيبُ التجربة الأولى لقيام الساعة قبل خمس سنوات طوال. كان نصيبهُ من قصفِ مسجدٍ ومدرسةٍ لم يحووا غيرَ مهجّرينَ عزّلٍ ومتطوعين شرفاء. كانت هذه التجربة وما زالت أقصى ما عاشهُ الشعب الفلسطيني منذ أول دقيقةٍ من عيشهم فيما يسمّى الشتات.

"الشتات"، الكلمةُ التي سئِمتُ من سماعها في كل مؤتمرٍ أو اجتماعٍ يجمعُ فصائل منظمةٍ ما أصبحَ من اسمها "تحريرٌ" سوى تحريرُ أدمغة قادتها من مشاكلِ وآلامِ ما أسمْهُ دوماً بشعبهم. الشتات الذي لم أشعر بعمقِ حريقهِ داخلي إلا عندما عَلَى صوتُ العسكريٍ في مركزِ الهجرةِ والجوازات بلهجةٍ ساحليةٍ مصطنعة ٍقائلاً: "ولكين بدكِن تسافروا على مصر وتهربوا من الجمهوريِّ، ولكين إن شالله بتغرقوا كلكين وبتريحوا إسرائيل وبتريحونا." كل هذا وأكثرُ بكثيرٍ لسببٍ واحد، ألا وهوَ أنه كُتب على جدي القدر العَثِرُ بأن يُرسلَ عائلتهُ القرويّة إلى جوبر في دمشق وفرسيهِ إلى الكرمل لينتظَرَ الموتَ شهيداً مظلوماً في أرضهِ. رَحِمكَ الله يا عبدَ الغني، لكن أتعلمُ أننا ابتعدنا وأحفادُ إخوتكَ جداً عن دمشق ومخيمها؟

طيلة الأربع عشرةَ سنةٍ اللاتي عشتهم في اليرموك لم أشعر بالانتماءِ إليهِ إلا عندما فقد حيويتهُ المشهورَ بها مبدلاً إياها بحيوية الثورة الأبية. يبدو أن جدتي كانت على حَقٍ عندما قالت بأننا نحنُ أحفادها "عفاريت صغار" لا ندركُ قيمة الأشياء إلى حين فقدانها. عندما جابت شوارع اليرموك المظاهراتِ طالبةً بفك الحصارِ عن مناطق الجنوب الدمشقي الأخرى ومطالبةً بسقوط النظام وجيشهِ الغير آدميّ، ما كان لجدتي التي زارتنا صدفةً في ذاكَ اليوم بأن تقولَ لأبي أنها تخشى أن زيارتها هذهِ ستكونُ الأخيرة لمنزلنا في اليرموك عانيةً بأنَّ المنطقةَ ستُحْرقُ. لم يطل توقعها أشهراً حتى بائت الصواريخُ تنهالُ على أهل المخيم بلا هوادة وكعادةِ المشهدِ في الحرب السورية، لا فرق بين مسنٍ وطفلٍ ولا بين امرأةٍ ورجل، كلهم تحت اسم الإرهابيين أو "الحاضنة الشعبية للإرهابيين"، وما الواجب في وجه الإرهاب إلا القتل؟

مخيم اليرموك الذي كانَ أول منطقةٍ سورية تشهدُ شهداءٍ ماتوا جوعاً بسبب حصارٍ أرهَقَ اليرموكيين أجمعين كعقابٍ لهم بوقوقهم مع شعبهم

كان مخيم اليرموكِ من أوائل الشوكاتِ في حلق إسرائيل خلال الحروب كلها ضد الشعب الفلسطيني. كان اليرموكُ وأهلهُ مخبأ ياسر عرفات ومرقدُ خليل الوزير في عزّ الخطر حولهم. كانَ رَحِماً للفدائيين طوالَ تاريخٍ طويل زَيّنه الفلسطينيون بمقاومةٍ حقيقة. مخيمُ اليرموك الذي توعدَه أرئيل شارون بعد حرب لبنان في ثمانينيات القرن الماضي بيومٍ لهُ ولشعبهِ. هذهِ الشوكةُ التي كانت عصيّةً تجرحُ في حلق إسرائيل كلما حاولت أن تأكل من الذاكرةِ الفلسطينية شبراً، ها هي تُكْسَر على يد الأسدِ هذهِ المرة لينرسمَ خطٌ وتاريخٌ جديدٌ شبيهٌ كل الشبهِ بتل الزعتر بدماء الفلسطينيين الذينَ قاموا مع شعبٍ ضد ظالمهم ليتغنّوا بهتاف "واحد، واحد، واحد، فلسطيني وسوري واحد."

مخيم اليرموك الذي كانَ أول منطقةٍ سورية تشهدُ شهداءٍ ماتوا جوعاً بسبب حصارٍ أرهَقَ اليرموكيين أجمعين كعقابٍ لهم بوقوقهم مع شعبهم. لم يكتفِ النظام فقط بتجويعهم، بل قطع عنهم المياه وكل سبلِ الحياة. وبعدَ سنةٍ ونصفٍ من الحصار، كانَ لليرموكِ المصيبةُ الأكبر. كان لليرموكِ نصيبٌ من "داعش" لتتلذذ بسفكِ دماء الفلسطينيين وانتهاكِ كرامتهم، ليغدوا الفلسطينيون بعدوٍ من خلفهم وعدوٍ من أمامهم بدون عونٍ أو مساندةٍ من أي فصيلِ معارضةٍ غيرَ الفلسطينيين أنفسهم مجمعينَ أنفسهم 72 شاباً تحت راية "أكنافِ بيت المقدس"، هذه المجموعة التي تم خذلانها من جيش الإسلام في عزِّ قوته عندما قاتلت ضدِ دخول داعش لليرموك، فاضطرت أن تتركَ المخيم الصغيرَ وحيداً نصفَ شهداءٍ ونصف هاربين لتسمى فيما بعدُ بالمرتزقةِ والخائنة.

لم يكتفِ النظام بالحصارِ والتجويع الذي سبب أكثرَ من 200 شهيد بل وبالقصف والتلذذ برائحة دماء الناشطين والصحفيين والأبرياء التي تنزف من سكاكينِ مقاتلي داعش، بل أنه قرر منذ أيامِ ليست ببعيدة أن يرسمَ ما أصبحَ في الغوطةِ في زواريب المثلثِ ذو الألفانِ ومئة مترٍ مكعّب، فبأ حملتهُ الشرسة على العزّل بحجةِ وجدِ داعش. وكالعادة، القصف يتركّز على مناطقَ الاكتظاظ المدني ما سبب في استشهاد وجرح الكثيرين.

undefined

ها هو المخيم ينطفئ شيئاً فشيئاً، يسقطُ منزلاً وراءَ منزلٍ. ها هو اليرموكُ يشربُ الحقدَ بقدحٍ أسديٍّ لا مهربَ منهُ إلّا إلى السماءِ والله ليغدوا وشعبهُ رمزاً من الكرامةِ والطهرِ الإنساني. ها هم أهل اليرموك يبكونَ دماً على أحلامهم وشهدائهم الباقونَ في ذاكرةٍ وتاريخٍ لن ينسوا يوماً من أيامِ ألمٍ عاشه شعبٌ ما ذاق يوماً طعماً للوطن. سيخرجُ أهل اليرموكِ بآملهم وحبهم واندفاعهم كما أهل الغوطة وباقي المناطق السورية، سيتركون بيوتهم وما تبقى من مادّياتٍ لا تساوي سوى كرامةٍ رخيصةٍ لعساكرَ باسمِ القدسِ والمقاومة بلا رحمة، لو سمعت القدس باسمهم، لتقيأت قرفاً وتبرأً منهم ومن كذبهِم. وكما غَنّى أبو غابي: "هنا اليرموك يا قمراً، سيمحوا نوره دمُ الشهداء.. على عتباتكَ البيضاء، يحييه دمُ الشهداء.." ولا إحياءَ أكثرُ من دم الشهداء وطُهْرِهِم.

حاولي يا دمشقُ أن تنامي بهدوءٍ مع صوتِ القصف وصراخِ الأطفال ولعنات المسنّين. حاولي ألا تستيقظي، فقد بينَت ثورتكِ أنَّ للفلسطينيَّ لا قيمةَ تكفي لتستيقظي من النوم أو تنزعجي بسببه. حاولي ألا تفزعي لأن القمر ينطفئ، أضيئي شمعةً من غوطتكِ، فالقمر سينطفئ فلسطينياً فيكِ مثلما اشتعلَ قبلَ سبعينَ سنةٍ فيكٍ فلسطينيّاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.