شعار قسم مدونات

نجاحي سبب تعاستي!

blogs حزن تعاسة

أعمل صحافية في وحدة ضبط الجودة لقناة تلفزيونية، وهذا أمر سيء جدا، هنا لا يسمح بتمرير كل شيء، هنا حيث تشاهد وتسمع وتدقّق وتركزّ ثم تصلح ما يجب إصلاحه إلى أن يصل بك المطاف أن تقيّم وتقدّم المقترحات. قيل لي في أولّ يوم في العمل "نحن ليست مهمّتنا رصد الأخطاء بقدر ما هي ضبط للأشياء وتحسين لجودة المنتوج الإعلامي المقدّم على قناتنا، حينها كان الأمر عسيرا جدا بالنسبة إليّ وأنا الفتاة التي تخرّجت من معهد الصحافة منذ شهرين فقط، لا تجربة مهنية لديّ، كيف لي أن أقيّم نشرة أخبار أو برنامج سياسي أو حتى ومضة إشهارية قد يكون منتجها يكبرني في السنّ والتجربة بدل الضعف ضعفين؟ 

تتالت الأيام، وتمكنت من القيام بكل ما يوكل إليّ من مهام إضافية إلى جانب مهام عملي الرئيسية بكلّ حبّ وإتقان، أضحيت أشاهد في اليوم ما لا يقل عن أربع نشرات إخبارية إلى جانب البرامج السياسية والاقتصادية والثقافية حتى الرياضية أيضا بعينين مختلفتين، عين مشاهدة وأخرى ناقدة.

أحببت عملي كثيرا إلى درجة أن كلّ من يسألني كيف لديك القدرة لمشاهدة برنامج سياسي يتجاوز مدّته الساعة؟ أجيبه بابتسامة عريضة جدا، أنا صرت أستمتع بذلك، أستمتع حين أتابع تحليلات سياسية وعسكرية استراتيجية تفسّر الصراع الكردي العراقي ورغبة أربيل في الانفصال، أو حين أشاهد سلسلة حلقات برنامج يقدم كلّ تفاصيل أحداث نكسة 1967 أو فهم أسباب اجتياح أميركا للعراق ورغبتها في كسر العمود الفقري للدول العربية أو حتى حينما أعرف ترتيب الأندية في الدوري الإنجليزي الممتاز، كوّن ذلك فيّ في أقل من سنتين، شخصية ملّمة ليس بقليل الأحداث فحسب بل بجلّهّا وهو ما جعلني أقول كل ليلة: سأنام أقلّ غباء!

تمرّ الأيام لأتحصّل على الإجازة في الصحافة والاتصّال بمجموع جيد في كل سنة وتخرجّت من المعهد لأحصل على وظيفة عمل فور إنهائي دراستي مع مكتب لوسيلة إعلام أجنبية

كل ذلك جعلني أنظر إلى الحياة بطريقة مختلفة، أو لنقل بطريقة أسوأ، أدقّق في تفاصيل الأشياء الأشخاص وطريقة تفكيرهم أو أسلوب كلامهم، الأماكن والكتب وحتى اللافتات المعلّقة في الشوارع. تخيّلوا معي ولو للحظة واحدة وقوفي أمام لافتة ألعن كلّ من كتب فيها مصلحة "إستغلال وتوزيع المياه" دون أن ينتبه أنّ استغلال لا تكتب بالهمزة. هذا جنون!

أصبحت ممن لا يعجبه العجب العجاب، أقلق كل من حولي بملاحظاتي المتكررّة التي نادرا ما تكون محلهّا وغالبا في غير محلّها. ولحسن الحظّ أو لسوئه، فأنا أعيش بمفردي منذ خمس سنوات، تحصلت على شهادة البكالوريا في مدينة صغيرة من الجنوب التونسي، مدينة لا تكاد تشبه شيئا سوى الصور الصفراء القديمة والأفلام الصامتة والمهترئة، جئت إلى تونس العاصمة، هنا أين بدأت رحلتي الغريبة في تفاصيلها والكبيرة في أحلامها.

في سنتي الأولى كنت أسكن في ولاية وأدرس في ولاية أخرى وأضطر لأعبر ولاية تونس لأصل إلى الجامعة، هذا هو مثلث برمودا اليومي، ثم أعود إلى بيتي أطراف النهار لأجد كمّا من الفواتير ينتظرني أمام بابه وحاوية قمامة بعثت رائحة عطنة، وسخّان ماء معطّل يحتاج أن أنزل على زرّه لما يزيد عن الست دقائق إلى أن تلتهب سبّابتي ثم لا يشتغل، وكم جلي في الحوض يحتاج إلى التنظيف وملابس تحتاج إلى الكيّ وشاشة تلفاز مشوشة أحيانا خاصة إذا ما هبّت ريح في شتاء تونس البارد. هنا لديك الفرصة لأن تكون طالبا وسبّاكا وطباّخا ومصلحا لكل ما يتعطل بين يدك في آن واحد. إمّا أن تفعل جلّ ذلك بمفردك أو لا أحد.

تمرّ الأيام لأتحصّل على الإجازة في الصحافة والاتصّال بمجموع جيد في كل سنة وتخرجّت من المعهد لأحصل على وظيفة عمل فور إنهائي دراستي مع مكتب لوسيلة إعلام أجنبية، هدف قد يستحقّ سنوات طوال من الاجتهاد والعمل المتواصل لتحقيقه، لكنّ الأمر بالنسبة إليّ ليس إلاّ نقطة بداية، لذلك، ولأنني أملك طموحا جامحا لا يقبل القسمة على إثنين، قرّرت مواصلة دراستي في مرحلة الماجستير المهني في الإنتاج السمعي البصري، ولم يكن الأمر يسيرا أبدا إذ كنت أقضي يوما كاملا ونصف الليل خارج منزلي أدرس صباحا في الجامعة وأعمل إلى الساعة الواحدة ليلا في المكتب إلى أن تنتهي البرمجة المباشرة ثمّ أنتهي أنا.

أنا لا أدّعي إنسانية مفرطة ولا أجرّد الأشخاص من إنسانيتهم لكن لم يعد لي الكثير من مَن أستطيع الحديث معهم، أصبحت غريبة جدا حتى بين أفراد عائلتي
أنا لا أدّعي إنسانية مفرطة ولا أجرّد الأشخاص من إنسانيتهم لكن لم يعد لي الكثير من مَن أستطيع الحديث معهم، أصبحت غريبة جدا حتى بين أفراد عائلتي
 

كنت أصل إلى البيت منهكة تماما بقدمين متورّمتين وعينين بالكاد أفتحهما. ورغم ذلك كنت فور وصولي ودون تغيير شيئا ملابسي أقف في المطبخ لأحضّر وجبة الصباح والغداء ليوم غد ثم أضعهما في حقيبتي لأخلد فيما بعد إلى النوم. تفاصيل قد تكون تافهة وروتينية لقارئها لكنها تمثّلا حقا سببا في تكوين شخصيّتي، شخصيتي ذات الأبعاد اللامتناهية، التي أحاول رغم الفوضى العارمة التي أعيشها ألا أبعدها عن قراءة الكتب والروايات وما تيسّر من مقالات ما إن كانت وسيلة النقل التي أقلها يوميا فارغة، وأحاول ما إن أسعفني الوقت الضيّق جدا لممارسة بعض التمارين الرياضية في المنزل أو خارجه ومشاهدة آخرا الأفلام والاستماع إلى الموسيقى التي أحبّ.

خمس سنوات كافية بأن أتعلم قوانين إدارة حياة بأكملها بين البيت والجامعة والمكتب. قد أكون نجحت في أن أكون ما أنا عليه الآن، امرأة طموحة ناجحة لا تهدأ أبدا، لكنّ نجاحي كان سبب تعاستي. فأن تكون إنسانا عميقا في زمن"اللاّعمق" أمر سيء جداّ، تجد نفسك مطوقا بأشخاص لا يكترثون لما يحصل في دوما وحرستا وليس لهم أية رؤية في الأزمة الخليجية وتأثيرها على الإقليم، ولا ينزعجون أبدا لصواريخ التحالف التي تقصف اليمنيين ولا لانتهاكات الحقوق والحريّات الواقعة والمتكررة في مصر، ولا بإصدارات روائية جديدة ولا هم يحزنون لعدم متابعتهم لذلك.

الكلّ يقلّب صفحته على "الفايسبوك" أو "الأنستغرام" دون أن يكلّف نفسه عناء تقديم شيء لنفسه ولا للبشرية. أنا لا أدّعي إنسانية مفرطة ولا أجرّد الأشخاص من إنسانيتهم لكن لم يعد لي الكثير من مَن أستطيع الحديث معهم، أصبحت غريبة جدا حتى بين أفراد عائلتي، الأشخاص الذّين ساد في اعتقادي دائما أنّهم الأكثر طيبة ووداعة. 

كلّما حاولت أن أتحدّث إلى أحدهم عن الحياة والمستجدّات والسفر والموسيقى والحب والكتب إلا وصفعني بسطحيته القاتلة. تعتقد أمي الآن وبعد إتمامي لدراستي وتحقيق جزء من أهدافي ونضجي أنّه لا شيء يمنعني من التفكير في الزواج والاستقرار، مسكينة أمي لا تعلم أن الأمر زاد تعقيدا وتشعبّا في نظري وأن كل الأشخاص ليسوا سواء، وأنّه في هذه الحياة كلّما نظرت عاليّا إلا ازددت طموحا وحبّا لا يقبلان الصبر ولا المنافسة، وأنّه يجب عليك أن تطلب القمر لتعود حاملا ولو نجما واحدا. ليتهم يبذلون مزيدا من التفكير، لأنّ الحياة تستحق أن نعنى بها كل هذه العناية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.