شعار قسم مدونات

لاجئ بالوراثة (2)

blogs-غربة

إذا ضاقت الأوطان على أهلها هجروها، ولو كارهين، فكيف لو ضاقت الغربة واستحالت منافي. جمعتُ شجاعة الدنيا وسافرتُ خارج السعودية وفي قلبي أمل أن أهجرها وأسلاها، وأكبر من هذا الأمل، غضب محب، وخيبة طفل حاول أن يجد له مكانًا صغيرًا ينتمي له. اللاجئ لا يسافر، اللاجئ يجاهد، يحارب، يحفر في الصخر، "يخترع الذرة"، ليركب طائرةً من بلد إلى بلد. أنا دائمًا بحاجة لفيزا، وبحاجة إلى معجزات نبي، وكرامات الأولياء جميعًا، ورحمة الله لأوفيّ متطلبات أي فيزا. أنا دائمًا ممنوعة من الدخول، رغم الجملة اللطيفة الكوميديَّة على وثيقة سفري "يسمح له بدخول جميع الدول".
 
هناك ورقة سحرية أخرى لا أعرفها، البطاقة الشخصيَّة أو الهويَّة الوطنيَّة، الحقيقة أنِّي لم أفهم ما تعنيه هذه الكلمة، وكيف تعمل هذه البطاقة إلّا في مرحلة متأخرة من حياتي، ثمّ وأثناء استخراجي لفيزا الطالب، طُلب مني "بطاقة تحقيق الشخصيَّة الفلسطينيَّة"، حقيقةً عندما قرأت الطلب لأوَّل مرة شعرت بحماسة بسيطة وضوء من الأمل، هناك ورقة تثبت وجودي لا أعرفها، نحن ربما نملك بطاقةً ما، سألت أمي بأمل الدنيا:

"وين بطاقة تحقيق الشخصيَّة الفلسطينيَّة تبعتنا؟
ما عنا يا مجد!
طيب هي إيش أصلًا؟
أكيد هويَّة، أو إشي متلها
طيب يعني أي ورقة بتشبها، أي ورقة متل هيك
ما عنا، في الوثيقة والإقامة
طيب جدو ما عنده؟
لا ما حد منا عنده"

 

أن تكون لاجئاً يجعلك "الفيل في الغرفة"، يمكن أن تكون مثل "بابار" فيل لطيف قريب من الجميع، على مسافة واحدة منهم، ولكن هذا لا يلغي وجود خرطومك، لا يجعلك منتمي

في البداية خرجت من الرياض، ولم تخرج مني، من ليلتي الأولى خارجها وحتى أواخر الشهور الأولى كنت أقف على نافذة غرفتي في الدوحة أذكر الأعرابيَّة التي إلى نجد حنَّت وأنَّت، ثم أتمتم: "ما الأعرابيَّة حنَّت إلى نجد، وأنَّت من وجد، بأشدّ مني كلفًا، وأتمّ مني شغفًا، أنا أشتاقك مع كلّ صباح طالع، وضياء شارق، ونجم طارق". في الدوحة كان هناك مزيج متباين من كلّ الثقافات، يمكن للجميع أن ينتمي لمجموعة، وأن يكون قريبًا منها من نظرة واحدة، فهناك فلسطينيون، ومصريون، وسودانيون، والقائمة تطول بأجناس كثيرة، وهناك أيضًا "الفيل في الغرفة". أنا فلسطينيَّة، ولكن هل حقًا أعرف أسماء الشوارع عدا شارعين في غزَّة نشأ بهما جداي، هل أعرف النكات المنتشرة الآن، لزمات هذا الجيل، مشاكلهم وأزماتهم، في حال أنِّي أعرف جزءًا من هذا، هل يعرفون هم شوارع الرياض، قرى نجد، اسم جامعتي، ونكاتنا المفضلة، مشاكلنا.

 

أنا أحمل وثيقة مصريَّة للاجئين المصريين، وأحمل بعض ذاكرة أمي عن مصر، وأعرف عنها بقدر ما أعرف عن فلسطين تقريبًا، وكذلك سوريا، ليبيا، والقائمة تطول، أنا لست من هناك في النهاية، أنا كمن يحكي عن الحب من خبرة اكتسبها بالقراءة، هو نظريًا يعرف علامات الحب، لكن قلبه لم ينبض، ويداه لم ترتجف عند رؤية محبوبه.

 

في الدوحة كنتُ الفلسطينيَّة السعوديَّة، أي أنِّي بلا تصنيف واضح، يجعل الفلسطينيِّين يعلقون أحيانًا على حديثي بعبارات تحمل تعجبًا من بعض شبهي بهم، مثل: "إنت عنجد فلسطينية!"، وأجيب "يا جماعة أوريكم جوازي". قست الرياض أكثر، وحنت الدوحة أكثر، وتشظى قلبي بين الخرائط أكثر، بقي لي في الرياض منزلنا بشجرة التوت والليمون، في الربيع الماضي تحت شجرة الليمون المزهرة العطرة، قالت جدتي أنَّ في هذا الموسم كانت رائحة أشجار الحمضيات تملأ غزة، تأتيهم من فلسطين. فلسطين التي أضحت الآن أعمق في قلبي، بعدما نُثر وطني الورقيّ عدت لوطني الأسطوريّ أنقِّب عنه.

 

بقي لي في الرياض غير بيتنا مقهاي المفضل والصحبة، التي فهمت الآن أنَّها وطني الوحيد، الصحبة التي كانت سبب عودتي إلى فلسطين، إلى الضفة هذه المرَّة وإلى وجع القلب جنين، هذه المرة في الدوحة رأيت جزءًا آخر من الأسطورة، جزءًا جعلها تلبس ثوبًا حقيقيًّا، وحمَّلها معاني مختلفة، في هذه المرحلة أن تكون لاجئًا يعني أن يكون وطنك حيث صحبك، وأن تعنيك كلّ مدينة في العالم بمقدار متساوي، وأن تلفظك كلّ المدن بذات القسوة.

  undefined

 

من الرياض إلى الدوحة ثمّ إسطنبول، ردود الفعل واحدة، النتيجة واحدة، الحالة واحدة، أنت لاجئ، لم تختر ذلك، لا أحد يهتمّ، لم تخرج من بيتك، لا أحد يهتمّ، لم تترك أرضك، لا أحد يهتمّ، أنت لا تملك خيار العودة، أنت حتى لا تعرف طريق البيت الذي تركه جدك وهو ذاهب في رحلة عمل مشؤمة ثم أغلقت الحدود للأبد، لا أحد يهتمّ. لي ذاكرة عن فلسطين خبأها جدي حتى وصلتني دون أن يقول شيئًا، أنا يمكنني أن أعرف شجرة اللوز رغم أنِّي لم أرها في حياتي، عرفت النرجس بلمحة رغم أنِّي ما لمسته في حياتي، النرجس الذي ينمو في غزة، أعرف حارة الزتون، وتل الهوى، خان يونس وعبسان. كنت أظنُّني ابنة صحراء، ولكن وجدت ذاكرة قديمة في حواسي تخبرني أني ابنة البحر، بحر غزَّة، هذه الذاكرة ليست هوية.

 

أنا ابنة نجد وابنة الصحراء، أعرف الرياض بشوارعها وتفاصيلها، كيف كانت وكيف أضحت، بقُراها، بطريق المجمعة، وطريق القصيم، وطريق مكة، بعجاجها، ورائحة القهوة، والتمر، بمقاهينا المفضلة، وأمانينا المنتهية، هذه الذاكرة ليست هويَّة. هناك مدن كثيرة يمكن أن أصفها، لي فيها ذاكرة موروثة أو مسروقة، فبعد هذه الشتات نبشت ما ورثته من ذكريات عن أمي، وسرقت من ذكريات الصحب عن مدنهم، التي رأيتها بقلبي، ولي فيها هويَّات استخرجها الصحب خلسةً، مدن لن أراها ولكني أعرفها، كوَّنت جزءًا مني.

 

لذا، أن تكون لاجئاً هي حالة لا شفاء منها بعد هذه المرحلة، أن تكون لاجئًا يعني أنَّ لك أوطانًا بعدد الأهل والصحب مبعدٌ عنها، وصدِّقني اللاجئ أهله وصحبه دائمًا مبعدون. أن تكون لاجئاً يجعلك "الفيل في الغرفة"، يمكن أن تكون مثل "بابار" فيل لطيف قريب من الجميع، على مسافة واحدة منهم، ولكن هذا لا يلغي وجود خرطومك، لا يجعلك منتمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.