شعار قسم مدونات

العلاقات الحقيقية خارج نطاق المادة ومكاتب التنسيق

blogs علاقات

يتناثر هنا وهُناك رذاذُ فِكرٍ مؤلمٍ في توجّهه، إذ يُفرِّغُ كُلَ ذاتٍ من جُعبتها الإنسانية لتظل مادة خاوية.. مادة مُفتقِرة لمقوماتِ الحياة الحقيقية مُمتلئة بفراغٍ ما أنزَل الله بِه في فِطرَتِنا من سُلطان.. بل أقرّت به مادية بعض المجتمعات التي صادَفت هوى البعضِ في العلاقات فصارت أهلًا وتنزّلت سهلًا.. الطبقية لم تَعد في المالِ وحَسب بل أصبحت بصبغة فِكرية وكل الحق أنها صِبغة زائفة بمقياس أعوَج!

ماذا يعني أن يعلو صَوت إحداهن "دي في دبلوم، أكيد ضايعة يعني.." أو عندما يتردّد في دائرة أصدقاء إشارة لازدراء القادِم؛ إذ أن مجموعه في الثانوية العامة لم يُسعِفه للالتحاق بهم فيما يُسمُّونه "كلية قمة".. في نَظرِهم هو أقل من أن يُصادَق، رُبما كان في حاجة إلى اثنتين بالمئة فأكثر ليستَطِيع الانضمام إلى جَمعهِم العبقريّ! وكذا تتهامس البعض في المُدن الجامعية عند مرورها بجانب غرفة إحدى دارسات الطب، في حين تبكي دارسة تربية من عِلو الصَوت فلا تَجِد طائل لأنها ليست.. قمة!

وإلى واحدة مُنزوية منذ توهّمها بأن النجاحاتِ صُنع شهادة ما وأن الصداقات تؤتى من نطاق فِكري مُعين.. وأعلمُ من قاطَعت صديقَتُها بدعوى التوافق الاجتماعي بعد ظنها بقليل من التفوق الاجتماعي عليها، وأيّ توافق اجتماعي هذا وأيّ تفوق! حتى الأمر أفسَد منظور البعض تِجاه أكثر العلاقات قُدسية حَيثُ منظومة الزواج، كأن تسأل "أنا هندسة وتقدّم لي تجارة، هل أرفض؟" فتأتي النصيحة من البعض على شاكلة ما أطلق عليه طه حُسين من فلسفةِ النساءِ الآثمة مُثبّتة رأيها بأن الرَفض واجب والازدراء لِزامًا!

أنتِ حُرة في مقاييسك وأنت سيّدٌ في قراراتك.. ووجَب العِلم باتساع النطاق الاجتماعي وِفقًا لكل ذات وما تقبل وما تُدرِك

ماذا يعني هندسة يتقدّم لها تجارة؟ هل تمشي الشهادَتين على أرجُل مُقيمة بَيت سَويّ يحب الله أن ينظر إليه مثلًا؟ وهل أي مادة كَونية بإمكانها أن تتنزّل عليكِ بلُطف جابرة لخواطِركِ المُتهدّجة في لحظةِ حُزن؟ وهل صارت العلاقات تنمو داخِل مكاتب التنسيق؟ إذن من أي نسبة مئوية نحصل على صديق حقيقي ومن أي جامعة نلتقي بشُركاءِ الحياة؟

في المقام الأول كُل شخص بشريّ يُحترم.. أثناء معرفتنا بهم أو دراستك لهم أو حتى إلمامك بمعلومات عنهم، قد تجد الشخص إنسانًا أو تجده بشريّ عادي.. قد يكون أولى أولوياتك في الرِفقة كَوْنه إنسان فإن تحقق الأمر حقّقت فيما تلاه.. وكُلٌ على شاكِلته.. قد تبحثين عن الخُلُقِ في المقام الأول.. قد تبحثين عن دينه وما ترتضيه من صُحبة ساكِنة تهوّن ما تعصِف به الحياة.. قد وقد…

يطول ما يُصاحب القد الخاصة بكل ذات على شتى علاقاتها، أما الثابت أن لا عاقل يُحب أن يربط ذاتِه ونَفسه التي كرّمها الله بمادة فقط دون النظر إلى ما عداها.. نحن ذوات الله أحد آحاد الأحد الأكبر مُمتلئين بمشاعرٍ لا حصر لها ومسئوليات بالفِطرة وأخرى مُكتسبة تتلاحم معًا تدفع أرواحنا لإتمام مَهمة بعينِها.. نحن المصنوعون بعناية ربّانية فريدة، فكيف نرتضي لروعتنا المُكرّمة أن تُمتهَن في أسمى علاقاتها بتوصيفها كمادة اجتماعية وحَسب؟

لا أحد يُنكِر أن للحيّز الاجتماعي دَور، لا نطلب أن تربِطَ حياتك بأُميَّة تنحيةً للجانب الاجتماعي.. لا أقُل لكِ خُذيه أبيضًا وعلّميه مُفردات الحياة على يَديكِ.. أنتِ حُرة في مقاييسك وأنت سيّدٌ في قراراتك.. ووجَب العِلم باتساع النطاق الاجتماعي وِفقًا لكل ذات وما تقبل وما تُدرِك.. وما دام الأمر يُصبغ بصِبغة ذاتية تمامًا فبداخل كل منظور رأي وكل رأي يخضع لتأويل خاص بالكُليّة.. فليس من شأن أحد أن يُملي عليك اختيار وليس من حَقِك أن تُضيّق واسعًا على غَيرك يرحمك الله! فهذا الذي تجديه مُحتاجًا للنقشِ وأنه ضيقٌ في سِعَتك.. قد يغدو رَحِبًا جدًا لذاتٍ أُخرى، رَحِب ورائع أيضًا!

وتِلك الأُميّة هي عَينُ العلمِ بعينِ أحدهم.. فلا كَوْنه أبيضًا عَيبًا ولا كَوْنها أُميّة مَدعاة لسَحقِ حَقِها الاجتماعي أو التقليل بأي شكل من دَورها الذي قد يتجاوز في عَظمةِ أثره ما خُطّ على بطاقةِ هويتها الشخصية وبدون بطاقتها هي رَوح من عنِد خالِقها.. نحن لا نبدأ أي علاقة ناضجة بشهادة لا قيمة لها في عالمِ الأرواح، ولا تُسكن القلوب بقوة أي مال مهما بَلَغ ولا يَقنع فِكرًا بأوراق صديقة لأوراق وسي في يبحث عن سي في آخر مُلائم أو يعلوه فحَسب ولا حَفَظة الأجرومية بباحثين عن مُردّدي الألفيّة! وهو ليس ميزان الغَرب الذي يكيل بأن المرءَ حاصِل إنتاجه المادي ليُقابل مشروعًا موازيًا، وليست العلاقات تُدار بالعمليات الحسابية الجامدة.. وحَسبُ كل امرئٍ أن يجد ما ناسَب نَفسِه وآلَف رَوحه وآنَس وَحشَته وعلى توصيفاتِ المُجتمعِ جميعا الهلاك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.