شعار قسم مدونات

رقان الجريحة.. نكوص في تطبيب جراحات الماض الأليم

blogs رقان

يوم ليس ككل الأيام يوم له جراحات ما قبله وذكريات أليمة لا تمحوها السنوات وإن طالت هكذا يستعيد العم محمد بكثير من الحسرة والألم ماضيه وهو يروي تفاصيل تجنيده مع رفاقه من قبل جيش الاحتلال الفرنسي زهاء الأربع سنوات 1957 حتى 1960 من العمل المتواصل في منطقة حمودية 65 كلم عن رقان. رقان المدينة الصحراوية التي تبعد عن العاصمة الجزائرية بـ 1348 كلم وعن محافظة ولاية ادرار بـــ 150 كلم الشاهدة على بشاعة الإشعاعات النووية دون أن يكون لهم أدنى علم بما يحدث لينتهي بهم الأمر ذات صباح من يوم 13 فيفري 1960.

 

وعلى الساعة السابعة وأربع دقائق بسماع دوي انفجارات ضخمة ومريعة كانوا قد صنعوا محيطها بأناملهم البريئة فحملوا العتاد والأتربة والحجارة دون أن يُخْبَروا بتفاصيل ما يقع. يقول العم محمد كنت أسفل الجبل عند وقوع الانفجار كم كان مروعا لم تتحمل أذناي قوة شدة الصوت اهتزت الأرض تحت أقدامنا ورأينا سحابة إشعاعية بلغ ارتفاعها 2600 متر أحسسنا بزلزال مدمر متبوع بغبار كثيف مع وميض ضوئي يمكن رؤيته من كرزاز بشار على بعد 650 كلم من حمودية. نعم كان الحدث متعلقا بأول تفجير نووي للاحتلال الفرنسي تحت مسمى اليربوع الأزرق بمنطقة الحمودية وكانت طاقة تفجيره 60 كيلو طن أي ما يعادل 70 مرة قنبلة هيروشيما اليابانية.

العم محمد لم يكن وحده حيث لم يتوانى الاحتلال الفرنسي في جعل السكان حقلا لتجاربه النووية فحوًلي 42 ألف مواطن من منطقة رقان إلى جانب مجاهدين حكم عليهم بالإعدام إلى فئران تجارب بهدف معرفة مدى تأثير الإشعاعات على الجنس البشري فتم بذلك اقتياد 150 أسير جزائري كانوا متواجدين في سجني سيدي بلعباس ومعسكر شمال غرب الجزائر العاصمة. مثل جميع أقراني لم تتوفر لنا فرصة معرفة تفاصيل ما حدث من مأساة فلا وسائل الإعلام تروي تفاصيل الجريمة كما يرويها العم محمد وأترابه من جيله ولا حتى مقررات الدراسة من كتب التاريخ والجغرافيا تستوفي الحدث حقه وثالثة الأثافي أن ذكراها السنوية التي دأبت الجزائر إحياءها ابتداء من سنة 1996 تمر بكثير من الرتابة والروتين ليس أكثرها من وضع باقات الزهور والتنديد بأفعال الاحتلال وجرائمه الغادرة.

بعد مرور 58 سنة على تلك التجارب السبعة عشر النووية لازالت رقان تعاني في صمت من نتائج مريعة جراء الآثار السلبية

كنا سعداء جدا حين دعوتنا بمعية أكاديميين من طرف إحدى اتحادات جمعيات المجتمع المدني برقان المدينة لتنشيط ندوة علمية بمناسبة الأحداث كان الموعد مهما بالنسبة إلي وفرصة ذهبية لأستنطق الأحداث من مسرحها ولأسمع من أذنيا تفاصيل الجريمة من بعض الشهود الذين لا زالوا على قيد الحياة فمن رأى ليس كمن سمع. قبل الندوة بيوم وبعد تنشيطنا لمحاضرات هامشية لطلبة ثانوية جبابري أمحمد الجديدة استوقفتني رواية وجدتها في رفوف المكتبة رواية لأحد الجنود الفرنسيين ممن عايشوا الحدث وشاركوا في التفجيرات بلغة يحذوها الكثير من الأسى والندم.

 

استطاع فيكتور مالو سيلفا الجندي الفرنسي في روايته رقان حبيبتي التي ترجمها للعربية الدكتور سعيد بوطاجين ان يفتح الباب على مصراعيه أمام طابوا ظل لسنوات حبيس الارشيف الفرنسي كانت الرواية مليئة بالسرد التاريخي وتفاصيل دقيقة حول المنطقة وحول ما جرى من الأحداث التي سبقت وتلت تفجيرات رقان وأنكر بتمنراست الراوي يقدم اعتذارا معنويا وشهادة تاريخية أن ما قامت به فرنسا شنيع وهو إجرام في حق الانسانية لا يغتفر.

بأم أعيننا وقفنا على مآسي رواها لنا ممن عاشوا الحدث مآس أتت على الأنس والجماد والحيوانات غير أنه بعد مرور 58 سنة على تلك التجارب السبعة عشر النووية لازالت رقان تعاني في صمت من نتائج مريعة جراء الآثار السلبية فالنفايات ومخلفات القنابل البلوتونية لا تزال مكانها لم يتم تطهيرها إلى اليوم وأغلب الساكنة يعانون من أمراض وسرطانات نادرة وتشوهات خلقية في مواليدهم الجدد وإجهاضات بالجملة ونقص في المحاصيل الزراعية وسط غياب شبه تام لأي إحصاءات رسمية.

تشير إحدى نتائج تحليل عينات من حمم موقع التفجيرات لفضلات الجمال على وجود ضرر إشعاعي نووي أضر بالمياه الجوفية للأرض والتربة والنبات على حد سواء وصولا إلى الجمال باعتبارها كائنًات ترتع في مثل هكذا بيئة صحراوية. لا حديث يعلوا في رقان الجريحة اليوم سوى التطلع لأن تتم عملية التأهيل البيئي للمواقع النووية في أسرع وقت والشوق إلى إنجاز مستشفى بمواصفات عالمية لمكافحة السرطانات التي بدأت تظهر تباعا وبوسائل متقدمة تتيح إمكانية التشخيص المبكر لها ولمختلف الأمراض الناجمة عن تأثير الإشعاعات دون الإغفال عن تعويض المتضررين والتكفل بعلاجهم ماديا ومعنويا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.