شعار قسم مدونات

الطريق إلى الدندر (2).. الحكومة في رجل!

blogs الدندر

في طريقنا إلى محمية الدندر كانت الطريق تزداد وعورة بعد تغيّر ملامح الردمية بفعل السيارات الكبيرة والشاحنة التي تحاول عبوره في موسم الخريف الممطر فتغرز فيه وتحاول الخروج فتتحول الردمية إلى حفر كبيرة مما يضطرنا للسير في حواف الطرق أو في محاذاة أكتافه… كانت الطريق طويلة صعبة وتكثر فيها الدروب الجانبية وكنا قد تأخرنا في الخروج حتى قاربت الشمس على السقوط، وكان رفيقنا الأستاذ محمد أحمد الكانون مسؤول الإعلام في محلية الدندر ممن عرف المنطقة قديماً فاقترح علينا أن ننزل في قرية أم عقرب حيث سنجد هناك رجلاً كريماً له ديوان كبير ليس له باب سيضيفنا هناك.

 

وبالفعل توجهنا إلى الديوان ليلاً وقد أعيتنا أبدانُنا من الرهَق الثقيل فاستقبلنا الرجل بحفاوة بالغة وبدا لنا رجلاً سبعينياً، فأمر بإحضار الماء والشاي لنا ثم أعقبه بعشاء خفيف قلنا في أنفسنا إن هذا العشاء يختلف عن سيرة هذا الرجل في الكرم، وقد ألفت نظرنا وجود إضاءة كهربائية في مضافته دون أن نسمع صوتاً لمولد كهربائي ذي ضجيج حيث لم تصل الكهرباء بعدُ إلى هذه المنطقة فعلمنا أنه مدّ الكهرباء إلى نواح في القرية حتى ما بعد العشاء بساعات ليصلي الناس العشاء ويقضون حاجاتهم ليلاً قبل أن تنطفئ المحركات مجدداً حتى الفجر.

 

رغم مظاهر الفقر التي تظنها في تلك المنطقة فإنك قد تفاجأ بأنها واحدة من أغنى المناطق بمواردها الزراعية والحيوانية وأنها ذات إنتاجية عالية

لمّا أسفر الصبح عاد لنا الرجل بعد أن أدى صلاة الفجر في الجامع الذي بناه وأصرّ أن نبقى حتى نشرب حليبنا الصباحي ونفطر ثم نغادر، وهناك بدأنا نتجاذب أطراف الحديث فحكى لنا عن زواجه عام 1949م وأنه كان آنذاك في عمر 16 عاماً وأن أباه كان إدارياً في الحكومة البريطانية التي احتلت السودان، وأنه كان يملك أرضاً زراعية واسعة تبلغ عمق محمية الدندر الطبيعية…

 

إن هذا الرجل الطويل الذكيّ الكريم يزيد عن التسعين عاماً الآن وليس سبعينياً كما ظننا، وطفق يحدثنا عن المحمية قديماً حين كانت تتحرك قطعان الزراف طويل الرقبة قبل أن يستهدفها الصيادون، وكيف تقطع الأفيال مساراتها من إثيوبيا قبل أن يحفر الإثيوبيون خوراً عميقاً منع دخولها إلى محمية الدندر، ويتحدث عن مشاهداته لثورة حيوانية برية هائلة كانت أرضها جزءاً من ممتلكاته وممتلكات أبيه وإخوته قبل أن تتحول إلى محمية اتحادية.

 

طفنا معه في قريته فوجدناه حفر لها بئراً وركّب لها صهريجاً يوزع ماءه بالمجان على قريته التي لم يكن فيها سوى أسْرته حتى فيضان عام 2003 حين كسر نهر الدندر على بعض قبائل العرب البدو فأغرقهم ففزع لهم دفع الله ود الزاكي مع أولاده وحملهم في جراراته الزراعية وأوصلهم إلى قريته ووطّنهم فيها وشغّلهم واعتنى بهم، وليس هذا فحسب بل بنى لهم مدرسة ابتدائية وأخرى ثانوية للبنين وللبنات رغم أنه لم يحظَ بفرصة للتعليم.

 undefined

كان الرجل في قريته أشبه بعظيم القوم يقدّره الجميع ويحبونه ويهابونه ويسمعون كلمته وهو يعرف أسماءهم رجالاً ونساء ويزورهم بين الفينة والأخرى حتى طبّقت سمعته الآفاق المحيطة. يعيش الرجل في منزل ريفي واسع مبني من الطوب وكذا أبناؤه وأهله ويعيش أهل قريته في منازل ريفية مخرطوطية من الطين والقش الذي يتقن بناءه أهل هذه المنطقة، ويمتهن الجميع الزراعة ثم الرعي ويتخلل ذلك تربية الدواجن والتجارة.

 

رغم مظاهر الفقر التي تظنها في تلك المنطقة فإنك قد تفاجأ بأنها واحدة من أغنى المناطق بمواردها الزراعية والحيوانية وأنها ذات إنتاجية عالية وأن تلك المساكن العادية الريفية هي نمط حياة مألوف مقبول، وأن رجلاً واحداً قد يصنع الفرق ويغدو حكومة أهلية تساند الحكومة المركزية والولائية في تقديمه للخدمات الأساسية، وهو يعترف لها بأنها حققت الأمن الذي جلب الاستقرار للمنطقة.

 

أحد الشعراء الظرفاء من الهمباتة الصعاليك الذين تابوا على يده يقول: إن لم يكن هذا الرجل الذي بنى كل هذا من أهل الجنة الذين يمشون على أقدامهم بيننا فلا نظن أن أحداً منا سيدخلها يوماً، فضيّق واسعاً من رحمة الله وفضله، ولكن معناه العميق بات مفهوماً لنا جميعاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.