شعار قسم مدونات

إقصاء الدين والرب في مسرحيّة الدُمى

blogs نصف وجه

لطالما اعتبرت أنَّ الدين أمر وجداني تجريديّا، شأن من شؤون القلب، لا يجوز أن تحشّر أنفَّكَ فيه لا من قريب ولا من بعيد، ولطالما ارتأيت أن أرى العلاقة بين الخالق والمخلوق علاقة رومانسيّة.. حميميّة.. علاقة خاصّة يجبُّ احترامُ خصوصيتها وحدودها، فهيَّ جزء لا يتجزأ من الهيكل البشري بغياهبه. ولكونِها تتقوقع بجوفِ اللّب الإنساني فإنَّ أي خلل فيها عواقبه جسيمة.. وخيمة.. تجعلُ مِنكَ لطيماً! تستطيع فكرة فاسدة واحدة بهذا التراب الخصيب إبادة شعوب كامِلة عن الوجود.. تشرذمهم، تشرّدهُم.. ومِن ها هُنا استحوذ فيلم البداية Inception لليوناردو ديكابريو عبقريته، فيلم كامِل للتعبير عن مبدأ بسيط: الفكرة المزروعة بالعقل الباطِن وبمستوياته السُفلى قادرة على تغيير توجهات الإنسان جُملّةً كلما اتجهنا نحو السطح.
 
ولذلك يبدو منطقيّا المآل الذي آل الوضع إليه، حيث أن الدين لما انتهى سبيلاً للمارّة.. ومرتعاً للفتاوي المُسيّسة واللحى المُشترى، تحتّم على ذلك وقوعنا عن حِصانِنا العربي الأصيل، ووصولنا لهذا المستوى المتدني من علاقاتنا القوميّة ووعينّا الديني، ولن يحفظَّ ماء وجهه لشعبي إِلّا لو استحى منه.. لو للشعبِ أن يتعلّم من النعامّة وأن يخجَلُ مِن رأسِه.
 

كيف نمتلكُ القدرة جيلاً وراء جيل عن تبني آفات آباءنا وأجدادنا بدون أن تزّل أقدامنا بضميرنا.. ذلك المتمدد ببركة من دماءِ غيرنا؟

صار التديّن بطاقة رابِحة بمجتمعاتِنا، صار سُترة مثالية للفساد تُرتدى بكافةِ أنواعِهِ وأشكالِه ويتم تفصيلها حسب الطلب. تستطيعُ من إخلالها أن تشتري حُبَّ الناس واحترامهم.. تستطيع أن تناسبهم.. أن تتزوج بنسائهم.. تستطيع أن تحكُمهم.. كمسرح الدُمى، تكون الفحل وراء المسرح، وكما قال جورج أورويل عن صعوبة إدراك الحقائِق: إنَّهُ لشيء صعب أن يرى المرء الشي الموجود أمام أنفه، فالمصفّق لا يستطيع أن يرى الخيوط المربوطة برأسِهِ وأكتافِه.. هكذا بالضبط يتم تسييرك بدون دِرايّة مِنك وعلى عينكَّ أيضاً! فمن تصوّر أنه بيوم قد يوجد خطَّ فاضِح يصِلُ بين التدين والانحراف الأخلاقي وبهذهِ العلانيّة؟ والجدير بالذكر أن التدين هنا يُقصَد بِه التحلّي بالمظاهِر الخارجيّة المتعارف عليها لمعتنقي دين مُعيّن.. انتساب ظاهري بدون أي جذور جوهريّة.. فمثلا ارتداء الصليب، أو ارتداء الحِجاب.. إطالة اللحيّة.. لكن بدون احتواء هذا الفرد على أي مترادفات داخليّة لهذا الممارسات. أي تفاحة فاسدة تُفسِدُ الصندوق، هذهِ شجرة كامِلة.. ضخمة.. هذهِ مشروع إِنهاءِك!

 

ومن برأيكم هو المتضرر الأول من هذه التصرفات، من هو المُصاب جراء استغلال الناس عن طريق أديانهم؟ الدين طبعا! فالدين يصغر ليصبحَ مع تتابعُ الصفقات مسألة اجتماعية.. عادات وتقاليد.. يغدو هذا الوتد المتجذّر.. المتأصّل بالبذرة البشريّة.. خيطاً، يتم اقتيادكم من خلاله.. يقودونك كحيواناتهم الأليفة حيث يشاؤون. ومن لم يسمع المقولة الشهيرة في فيلم سبايدرمان لنورمان أوسبورن: الطريقة الوحيد للقضاء على البطل هي بمهاجمة قلبه! ولكن بحالتكم فهيَّ عن طريق محاباة معتقداتِكم!

 

الطوائِف الدينيّة واختلافات فروعها، والكراهيّة المندسة بينها تفسّر المجازِر العربيّة بالعِراق للشيعة مُسبقّا، وللسنّة بوقتنا الحالي، لكن من يعوّل علينا للإخفاق مراراً وتكراراً.. كيف نمتلكُ القدرة جيلاً وراء جيل عن تبني آفات آباءنا وأجدادنا بدون أن تزّل أقدامنا بضميرنا.. ذلك المتمدد ببركة من دماءِ غيرنا؟ قال أفلاطون: لو أمطرت السماء حرية.. لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات، كأنَّ أفلاطون قرأ الطالع العربي، قرأ كفَّ الشرق وعرِفَ أننا لن نحمل المظلات وحسب.. لا.. بل سنصنعُها لو اقتضى الأمر ذلك.. لو لم يتم تزويدُنا بِها.. فنحن نعاني من وفاء مُضني، خصيصاً لُخنّاقنا!

   undefined

 

هنيئا لنا بشعوب متدينّة أمام الكاميرات وعلى صفحاتِها الشخصيّة.. شعوب متدينة يومَ الجُمُعة حتّى يفرَّغ الشيخُ من خطبته ثمَّ يعودُ الشعبُ لهفواتِه.. يعودُّ لكلامِهِ البذيء، وعينِهِ الزانيّة، شعب متدين باحترافيّة مؤلمة، لا يتحلّى بأي مضمون ديني، لا يخشى الله إلا عندما يتمايلُ الموت أمامه.. فعليّاً هذه هيَّ الحقيقة الوحيدة التي سيتراها لو كانت أمام أنفِه! ولكن هل المغزى الإلهي المُراد من الحياة هي لحظات ما قبل الموت.. هل هيَّ خشية الرب.. هل هذه المهمة ما خُلقنا لإتمامها؟ أرفُضُ الاعتقاد بهذا. الحُبّ سامٍ، الحُب أرفع مقاماً من الخشيّة، وأعلى قدراً.. وبصراحة.. منطقيّ أكثر، فهذا الخالق الذي أرغمَّ وجودك على الغمام، الذي جلبك من بين شِفاهِ العدم: هل خلقك كي تخاف منه أم كي تُحِبَّه؟ فكيف تتسامى بعلاقتك مع الخالق لو لم تنتقي من بساتين مشاعرك أجملها..

يُقال أن الله خلقنا على صورته، ولكنني أعتقد أننا بالمقابل نتخيّل الله بصورتنا، من خلال عُقد نقصِنا.. فماذا قد يُفسّر إخبارنا أطفالنا بأنهم لو فعلوا شيئاً سيئاً أن الرب سيأخُذُهم للنار، ماذا قد يُفَسّر نشر ثقافة التخويف كي نفرِضَ للرب هيبته لو لم نرى أَنَّ الله عسكري يحتاجُنا أن نخشاهُ؟ حقيقةً، الرب فكرة مُعقدة.. جدليّة: كُنت تؤمنُ به أو تُلحِدُ به، سيكونُ فكرة متواجدة بحياتِك شِئتَ أم أبيت. ولهذا فإنَّ الطريق الأسهل لاستمالة إنسان هي من هذا الباب.. فكثيراً ما تنمو الاتجاهات السياسية في الباحة الخلفيّة للمعتقد الديني.

كلنا مذنب. نعم! كُلنا مُذنِب بتكرار منهجيّة الأولين، بنشر المشاعر السلبية تجاه الرب، بتسيّس الدين للانتفاع بِنا، فكل مرّة قلت لطفل أن الرب سيأخذه للنار لو كذب دفنتَ بِهِ بذرة، ستكبر، سيقومُ بدورِهِ بتخويف أطفاله وأصدقاءِه.. سيحصل ما يُعرّف بأثر الدومينو.. وكُلما بدت العلاقة بين الخالق والمخلوق إقطاعيّة.. اتخذ الدين شكلاً يماثلُها.. يعطي الحُكام رِقابنا على طبق من البلاستيك، وأما نحن الدُمى فنصفّق بحرارة.. وأما نحن الدُمى فنُصَفّق من سويداء قلوبنا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.