شعار قسم مدونات

الكبت.. وإشكاليةُ الجنس!

مدونات - رجل يجلس وحيد يفكر
الجنس! هذا التّابو أو المحظور الذي نخافه، ونعادي من يتجرّأ ويقترب منه؛ إنّه شيء مقدّسٌ بالنسبة لنا كعالَم عربي بالخصوص. اما في الدول الأوروبية فهم وإن كانت عندهم تابواتهم إلاّ أنّ التي نملك نحن تفوق ما لديهم أضعافاً وأضعافا. كان للكنيسة دور مهم في ترسيخها عند الغرب، لكن ما إن جاءت فلسفةُ التنوير وغيرها، حتّى صارت تحفر القبور لدفن المحظور.. وكانت اليد الكبيرة في هذا القتل هي يد صاحب نظرية التطور: داروين والذي أثبت أنّ الإنسان والحيوان في الغرائز سواء، والغريزة هي شيء طبيعيٌ لا دخل للبشر فيه، ولا يمكنه مقاومته، لذا لا بأس أن يطلق الإنسان العنان لهذه الغرائز ما دام يحقّقُ بها مبدأه الحيواني: أكل وجنس..
 
كان لهذه النّظرية في البداية وقع خطير على نفوسُ البشر عامة، وأصحاب الكنائس والمؤمنين منهم خاصة، لأنّه تولد عنها صراعٌ بين ما تشبّع به الأنا الأعلى من مقدسات ومحظوراتٍ من طرف الكنيسةِ، وما يطالب به الهو بحجّة أنه من حقّ الذات أن تمارس ما تشاء، وأن تستسلم للغرائز الطبيعية! فتهدّم الأنا ولم يعد يستطيع أن يوافق بين الأنا الأعلى المتعصب للمبادئ والتقاليد والدين، وبين الهو الثائر، فاستسلم وترك الطرفين في صراع حتّى جاء العالم النمساوي، وصاحب مدرسة التحليل النفسي فرويد وأخرج نظريته الليبيدو: الطاقة الجنسية للوجود، فكانت لصالح الهو، لكنّه لم يستغل القضية لجهته وينهي الصراع دون أن يتصالح مع الأنا المنهك والمنعزل، وأراه بأن لا طائلةَ من إرضاء الأنا الأعلى، لأنه منبع الخرافة والأوهام ولا شيء في الطبيعة موجود مما يؤمن به؛ فاقتنع الأنا بشرح الهو وانحاز إليهِ وأعلنوا حرباً على الأنا الأعلى ممّا ألحق الضّرر العظيم به، فكبته الأنا وقيّده، وما زال إلى يومنا الحالي مكبوتاً.. لكن اليوم الذي سيتحرّر فيه قريب وربّما بدأت بعض العلامات تنبئُ بذلك.
 

هناك من يدعي بأنّ الدّين السبب الرئيس خلف الكبت، والاضطرابات النفسية! لأنّه أثقل كاهله بالمحظورات وقيّد غرائزه ومنعه من حقّه الطبيعي في ممارسته للجنس! هذا الادعاء باطل

أثبت فرويد أنّ الجنس هو السبب خلف كل ما يصاب به الإنسان من اضطرابات نفسية، وذلك راجعٌ حسب نظره إلى أنّ النفس حينما تكون في بداية تطورها: أي حينما يكون الإنسان صغيراً، فإنّها تكون كالمادة الخام، سهلةٌ وسلسة، وأيّ شيء طرأ عليها في ذلك الوقت سيكون له نصيب في تنشئتها. وكلّما كانت المؤثرات سلبية، كانت النتيجة سلبية، بحيث إن هذا الشخص لن يكون صالحاً لنفسه ولا للمجتمع، وهو المريض.
   
قبل أيام سألني أحد الأصدقاء عن سبب كون بعض النّاس ليست لهم الثقّة في ذواتهم وقدراتهم، مع أنّ من حولهم يعترفُ بأنّهم عبقريون وذوا مواهب؟ فأجبته من وجهة نظري وحسب معرفتي المتواضعة في هذا الشّأن. بأنّ السبب الرئيسي قد يكون إما المنزل، وإما المدرسة! فتفاجأ بالجواب، وأنكر الأمر، ولم يطلب مني التفسير، وبعد مدّةٍ عاد إليّ واستفسر عن السبب أو الخلفيات التي أسست عليها هذا الرّأي؟ فأجبته بأننا إذا كنّا نؤمن بأنّ الأسرة والمنزل هم من يصنع العظماء، فلا بدّ أن نعترف أيضاً بأنّ هذين هما السبب خلف إعطائنا مثل هؤلاء الذين لا ثقة لهم في ذواتهم، وهم دائما يشعرون بالدونية وإن كانوا غير ذلك.

 
لأنّه في مدارسنا العربية وكما نعلم -ولله الحمد- هناك أساتذة في المستوى المطلوب لإنشاء جيل معطّل لا يصلح لشيء! وأنا لا أعمم طبعاً، فهناك خير كثير. إذ كيف يمكن لطفل أن يكسب شخصيةً قويّة وأن تكون له الثقة بقدراتهِ، والمدرسةُ تُعلّمه أنَّه لا فائدة ترجى منه إذا هو لم يستطع الحصول على معدّل في المستوى، وأنّه لن يكون في المجتمع شيئاً ذا بال، إلى غير ذلك من الكلمات التّي تخرب نفسية التلميذ، وإذا ذهب إلى المنزل ولم يكن هناك أمٌّ وأبٌ يعترفان بمجهوداته ويشجعانه على المضي في الموهبة كيفما كانت وتهيئ الوسائل الضرورية لإنجاح ذلك فما هي النتيجة؟ وحينما لا يجد الطفل إلاّ من يثبطُّ ويقتل مواهبهُ فماذا ننتظر منه؟ ففي النهاية سوف يستسلم للأمر إيمانا منه بأنّهُ غير صالح للمجتمع، ولن يكون له دورٌ في الحياة، وأنّ الذين سيكون الجاه من نصيبهم في المستقبل هم من حصلواْ في المدرسةِ على مراتب عالية!
 

الجِّنس هو النواة التي تقوم بسبهها الحياة، فلولاه لما كان لنا نسلٌ، وحينما نقول الجنس نحن نعني به هنا العلاقة الحميمية بين الذكر والأنثى مطلقاً، سواء كانت العلاقة شرعية أو غيرها، وهذا الذي ذكرناه هو الذي نتشارك فيه مع الحيوان، فنحن لا نختلف في الجوهر الرئيس، ألا وهو ممارسة للجنس بهدف التناسلُ، ولكنا نختلفُ في الأمور الثانوية، وهذه الأمور هي التّي تجعلنا نتميز عن الحيوان، ولولاها لكنّا سواء، جوهراً وعرضاً. والأمر الذي ميزنا هو تعديلنا وتصويبنا للعلاقات، وغالبُ هذه التعديلات هي في الأصل من الله سبحانه وتعالى: فكثيرٌ هي النصوص التي تدلُّ على ذلك، مثل قوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْوَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ". (آية 22).
   

يقولون في علم النفس أنّ أفضل طريقة لإخراج الرغبات المكبوتة هو إخبار شخص ما بها، لذا نجد في مجتمعنا -والحمد لله- الكثير من الأطباء النفسانيين، فهذا يشكو همومه وذاك يسمع

فالدليل واضح في دلالته الشرعية على أنّ هؤلاء المذكورين لا يجوز جعلهم شركاء في العلاقة الزوجية الجنسية. ولكن الإشكال ليس في وجود النص أو في عدمه، بل المشكلة في الإنسان نفسه، فكثيراً ما نسمع اليوم في مجتمعنا عن العلاقة الجنسية التي تقع بين المحارم، بل أكثر من ذلك نجد أنّ هناك من يطالب ويدافع عن الزّواج المثلي! بدافع الحرية في الجسد والأفعال، وأنه لا دخل للمجتمع في الفرد في ممارسةِ ما يشتهيه! وكأنّ الشرع لم يكن عادلا فيما أحلّه وحرمه، فألقواْ عليه تهماً باطلة لا علاقة للشرع فيها، فهناك من يدعي بأنّ الدّين السبب الرئيس خلف الكبت، والاضطرابات النفسية! وصُنع الإنسان المنافق بالمصطلح الشرعي والانفصامي بلغة الفسيولوجيين، لأنّه أثقل كاهله بالمحظورات وقيّد غرائزه ومنعه من حقّه الطبيعي في ممارسته للجنس! هذا الادعاء الباطل للأسف له العديد من الأنصار. ولكن يجب علينا أن نطرح على هؤلاء بعضاً من الأسئلة. ما السبب الذي جعلكم تُقزِّمون الهدف من الوجود في الغرائز؟ أم أنّ لنظرية التطور يداً في القضية؟ فأين القيم العليا والأخلاق المثلى، التي يبحث عنها الإنسان؟ أم أنّها مجرد خرافات لا قيمة لها؟ ولكنّا نبشر هؤلاء، فهم فلاسفةٌ عباقرة، لأنهم استطاعواْ أن يُجيبوا عن السؤال الفلسفي المشكل: الهدف من الوجود؟ 

    
الجنس والكبت شيآن مترابطان لا يفترقان، ففي الإنسان السوي رغبةٌ طبيعية في الجنس الآخر وإفراغ نزواته، وحينما لا يفعل، لأسباب عديدة، فإنّه يكبت تلك الرغبة في داخله، فهو في النهاية يريد علاقة شرعية، ومرّةً أخرى تأتيه الرغبة فيكبتها لعدم توفر الشروط، وهكذا مرّة بعد مرّة، وما دام المجتمع لم يوفر له الأسباب فإنّه لا بدّ وأن يأتي اليوم الذي ينفجر فيه البالون، وحينها نكون قد صنعنا شخصاً مريضاً خطيراً يحتاجُ إلى علاج! ونضيفه إلى القائمة، وهكذا إلى أن يصبح لدينا مجتمع مريض.

  

يقولون في علم النفس أنّ أفضل طريقة لإخراج الرغبات المكبوتة هو إخبار شخص ما بها، لذا نجد في مجتمعنا -والحمد لله- الكثير من الأطباء النفسانيين، فهذا يشكو همومه وذاك يسمع، والعكس وهكذا، لذا فنحن بخير ما دمنا نتحدث مع غيرنا ونفرغ عليهم قلوبنا المليئة، وما دام لنا الليل نحلم فيه بما نريد بلا حاسب ولا رقيب..!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.