شعار قسم مدونات

مسلسل السلطان عبد الحميد.. نموذجٌ للرقص مع الذئاب

blogs مسلسل السلطان عبد الحميد

من الجمل التي ترددت على ألسنة دبلوماسيي الدول العظمى في عصر عبد الحميد – مقولة ذات دلالات عميقة وذات مغزىً كبيرٍ وهي قولهم: "إن عبد الحميد يتقن الرقص والعواء مع الذئاب". وأصل هذا المثل الإنكليزي: wolves the with Howling، وهو يعني أنك عندما تحاصرك الذئاب فالطريقة الوحيدة لكي تنجو منهم هي أن تعوي مثلهم، حيث تقنعهم أنك واحد منهم، وأي محاولة للهرب أو أي فعل غير العواء يعرضك للتمزيق بأنيابها الحادة.

أستحضر هذا المثل وأنا أشاهد مسلسل السلطان عبدالحميد فقد جاء صورة أخرى للسلطان حيث تعامل مع الغرب بأسلوبه، فبينما الغرب يسعى دائما في تغيير عقول الأمة بما يبثه من إعلام مقروء ومسموع ومشهود حتى وصل الأمر أن الكثيرين يرون في الغرب طريق الخلاص، وينتظرون الفكاك من قيودهم على أيدي جلاديهم!! وسط هذا العواء الغربي جاء مسلسل السلطان عبدالحميد الثاني والذي أذيع منه حتى الآن (47) حلقةً؛ ليعيد تشكيل وعي الأمة، وتوضيح حقيقة الصراع بينها وبين عدوها، ويمكن أن نلخص عملية الوعي في هذه النقاط الأربعة:

أسباب الصراع:

حيث يوضح المسلسل بما لا يدع مجالاً للشك أن الهدف الرئيس للصراع هي الحرب على الإسلام ومحاولة طمس هويته، وإطفاء نوره، ويظهر ذلك في الكثير من المشاهد مثل هذا المشهد الذي يتحدث فيه السلطان إلى باشواته قائلاً: يريد التاريخ أن يحكمنا، بقي المسلمون في الأندلس 800 سنة والصليب معلق بدلاً من الهلال الآن، أصوات البوم والأجراس تعلو بدلاً عن صوت الآذان، ونحن هنا منذ حوالي ألف سنة، هنا دار الإسلام، والكفار يريدون أن يطردونا منها، نحن سمينا أبناءنا مريم وعمر وعلي وعثمان وقرأنا الآذان في آذانهم، يريد الكفار أن تتغير هذه الأسماء، يريد الكفار أن يتوقف الآذان في آيا صوفيا، هذا ما يريده الكفار؛ فماذا نريد نحن؟ نريد السلام، نريد الرفاهية، نريد العلم، وهذا كله اسمه الإسلام.

من أسباب ضياع المسلمين عدم معرفتهم الكاملة بعدوهم وما يدبر لهم في الخفاء، وصرنا في زمنٍ يخوّن الأمين ويؤّمن الخائن، وهنا يقوم المسلسل بكشف اللثام عن قوى الشر العالمية

وفي مشهدٍ آخر وأثناء حديث جانبي بين اليهوديين (مانويل كاراسو وتيودر هرتزل): سنهدم الدولة العثمانية ونهزم المسلمين، ولكن يجب أن يتراجعوا عن تتبع أثر رسولهم، وليغلقوا كتابهم، وليخجلوا من تاريخهم، وليتعلقوا بذيل الغرب، ولتصل حبال الأئمة إلى أيدي الكهنة والحاخامات، وانظر ساعتها ماذا سيحدث؟!

وفي مشهدٍ آخر جمع بين الزعيمين اليهوديين يقول أحدهما للآخر: لكي تهزم الدولة العثمانية عليك بإزالة تأثير الدين الذي في الدولة العثمانية، فعلينا تقسيم الأذهان والأفكار والقلوب، ولا طريق غير هذا لفك روابط المسلمين. والمشاهد حول هذا المعنى مبثوثة في ثنايا المسلسل، لتصنع من هذا الأمر شعورا وفكرا داخل وعي مشاهديه، فتتضح لهم حقيقة الصراع وأبعاده مُقدَماً في طريقةٍ دراميةٍ جذابةٍ.

قوى الشر:

إن من أسباب ضياع المسلمين عدم معرفتهم الكاملة بعدوهم وما يدبر لهم في الخفاء، وصرنا في زمنٍ يخوّن الأمين ويؤّمن الخائن، وهنا يقوم المسلسل بكشف اللثام عن قوى الشر العالمية، حيث المكر اليهودي ونفوذهم الصهيوني وحيلهم الماسونية مع خبث الصليبية الماكرة وخطط الغرب وألاعيبه، وما يتبع كل ذلك من أسلحة الدمار الثقيل بالقتل والفتك، وأسلحة الدمار الناعم بالمال والجنس.

كما يشير المسلسل إلى بدء وضع خطط النظام العالمي الجديد وماذا تبغي، والمؤتمر الصهيوني الأول بقيادة هرتزل وكشف اللثام عن حقيقة أهداف الصهيونية العالمية متمثلة في تفكيك الأمة الإسلامية وإقامة دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات . ويظهر ذلك في العديد من المشاهد ومن أروعها هذا المشهد الذي يخاطب فيه السلطان عبدالحميد طلاب الجامعات: أبنائي أمامكم وحش (غربي) قد وعدكم بحديقة أزهار لكن تنتظر (النيران) بيده، حين تدخلون إلى تلك الحديقة لأخذ وردة ستأخذون تلك النيران كالمرض وتجلبوها إلى بلدكم كالوباء، بعد احتراق بلدكم سيأتي ذلك الغرب ويأسركم..

كلما أصغيتم إلى أكاذيب الغرب لن تستطيعوا حماية هذه الأراضي في المستقبل.. أسامح في حقي ولكن لا أسامح في حق مقدساتنا ورسولنا ولا أسامح من يساعدهم على ذلك، ولا أسامح من يهاجمون الإسلام الدين المبين، ولا أسامح من ينصبون الألاعيب ويسعون لهدم الدولة، إذا علمتم هذا وأصبحتم خدم للغرب ولسان الغرب، ولم تجعلوا دينكم ودولتكم ولغتكم وشرفكم تاجا على رؤوسكم لا أسامحكم أبدا.

كما يوضح المسلسل بقوة كيفية خداع الإعلام لعقول الناس، وتغيير الحقائق وطمسها، وكيف استطاع اليهود تشكيل الوعي الغربي والشرقي على السواء عبر الصحف والمجلات التي كانت تتبنى قضية مظلومية اليهود حتى جعلت منها قضية رأي عام عالمي يمثل نقطة جوهرية في الصراع بين الشرق والغرب.

الخلل الداخلي:

يُظهر المسلسل الخلل الداخلي وسبب الانهيار الذي تعيشه الأمة ، ويرجع ذلك لسببين:
الأول: بُعد الأمة عن دينها وهويتها: وقد ألح المسلسل في طرح هذه الفكرة بصورٍ شتى، وفي إحدى المشاهد يحذر السلطان باشواته من هذا الأمر قائلاً: إن لم نكن يقظين عند شروق الشمس نواجه أمة مختلفة كليا. مختلفة في لسانها، في طريقة تناولها الطعام، في جلوسها، في ارتدائها، في تجارتها، وفي علمها كذلك. يخرج فيها أناس يتاجرون بالدين، ومن يتاجر بشيء يبيعه!

الثاني: الخيانات الداخلية: ويلح المسلسل في كشف الخيانات الداخلية ودورها في هدم الأمة، وكيف يجند الأعداء أبناء الأمة عبر الإغراءات والتهديدات، وكيف يجب على الأمة أن تكون متيقظة لذلك، وعلى رأسها حكام الدولة الذين يجب أن يكون على وعي دائم بما يدور خلفهم، وعليهم أن يضعوا رجالات الدولة في اختبارات دائمة تقيس مدى ولائهم للدولة والأمة، كما يبين بوضوح دور العلماء الربانيين في فضح الخونة والمأجورين، ويتضح ذلك في مشاهد دور شيخ الإسلام بأنه إن رأى اعوجاجا -ولو بسيطاً- من ولي الأمر وجب عليه النصح التنبيه، فإن تمادى في غيه وجب الخلع والإبعاد.

يرسل المسلسل صيحة إنذار للإسلاميين في كل العالم لاستدراك ما فاتهم من استخدام الإعلام بالطريقة المثلى
يرسل المسلسل صيحة إنذار للإسلاميين في كل العالم لاستدراك ما فاتهم من استخدام الإعلام بالطريقة المثلى
 
سبيل النهوض:

وأجمل ما في المسلسل هو تركيزه على سبيل النهوض، وكيفية استعادة الأمة لأمجادها ويمكن أن يلخص هذا في عدة نقاط:
* الرجوع للإسلام قولاً وعملاً: ويظهر ذلك في حوارات السلطان حتى مع أبنائه حيث يخاطب أحد أبنائه عندما علم أنه لعب القمار لمرة واحدة؛ فيصيح في وجهه: كيف ستبرر ذلك عند الله، وأنا ماذا أقول لربي وأبرر له موقفك؟!

* التقدم العلمي والتكنولوجي: ويظهر ذلك في كثير من مشاهد المسلسل التي يدعو فيها السلطان لإحداث عملية تنمية متكاملة الأركان.

* وحدة المسلمين: وعبرت عنها عدة مشاهد ومن أروعها قول السلطان: "متى نعانق بعضنا، ومتى سنتحد ونرفع الراية"؛ بل ويحرص المسلسل في تقديمها بشكل عملي عندما تعرض لإنشاء سكة حديد الحجاز وكيف تجاوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لنداء السلطان من أجل التبرع ليكون مشروعاً إسلاميا خالصا، ليس للغرب فيه يد.. ويتضح كذلك في علاقة الخلافة بالمسلمين في الهند ومظاهرات الفرح بمصر بعد إلغاء فرنسا للمسرحية المسيء للنبي بناء على اعتراض السلطان وغيرها من مشاهد الوحدة الإسلامية العظيمة.

* القضاء على العنصرية: حيث أشار السلطان في كذا موقف إلى أن العربي والتركي كل منهما يكمل الآخر، وإن كنت لا أعفي المؤلف والمخرج من تلميحاتٍ عنصرية كنت أتمنى أن يخلو منها هذا المسلسل الرائع فلا تشوه نصاعته ورونقه!

* الرقص مع الذئاب: بكيفية استغلال ما بين العدو من اختلافات وأهداف وغايات وتحريك شراع السفينة لاستثمار هذه الاختلافات لتنجو السفينة من الأعاصير التي تحيط بها، والحرب خدعة.

ويظل المسلسل أعمق بكثير من هذه الإشارات العابرة التي أشرت إليها سابقاً، وبذلك يخرج المسلسل من كونه دراما إلى كونه إعادة صياغة العقل المسلم في صراعه الحالي. ويرسل بذلك صيحة إنذار للإسلاميين في كل العالم لاستدراك ما فاتهم من استخدام الإعلام بالطريقة المثلى. كما يجمع الأمة ويوحد رؤيتها لكثير من الأحداث، وتقارب الرؤى والأفكار سيكون مقدمة لاتحاد الدول والشعوب. وبذلك تكون الدراما التركية أجادت الرقص مع الذئاب!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.