شعار قسم مدونات

حين نقدس العادات والتقاليد

blogs مجتمع

في سلسلة وثائقيات للمغامر الأردني لؤي العتيبي في إثيوبيا يزور بعض القبائل البدائية في وادي "أومو" والتي ما تزال تعيش بطريقة بدائية من نظامها الغذائي حتى طريقة إشعال النار بالحجر، ويتحدث مع شيخ القبيلة الذي أصبح يخاف من زحف "المدنِية" نحوهم ومن اندثار ثقافتهم الضاربة في عمق التاريخ حيث ظلت صامدة لآلاف السنين. لكن عادات هذه القبائل لا تقتصر على طريقة إشعال النار وطقوس اجتماعية معينة، فثمة ظروف يتم فيها قتل الأطفال لأسباب عادية جدا بل تافهة أحيانا وذلك لمجرد أن أسلافهم قالوا ذلك، فمثلا إذا نمت أسنان فكه العلوي قبل السفلي يجب قتله لأنه فأل سيء على عائلته وأقاربه، وطقوس أخرى يتم فيها وشم الجسم بطريقة خطرة تسبب للجسم -عدا الألم الجسدي المباشر- وجروحا تصعب مداواتها. فهل يستحق الأمر يا ترى أن يضحي الإثيوبي بعشرات الأطفال سنويا مع ظروف معيشية أقل ما يقال عنها أنها صعبة جدا، لمجرد أن يقال إنه يحافظ على عاداته وتقاليده، أو بالأحرى على عادات أسلافه وتقاليدهم؟

ويمكن أن تسأل أيضا: هل يعتبر السينغافوريون مثلا تخلوا عن "ثقافتهم" حين تركوا الاعتماد على صيد ما جادت به المستنقعات والبرك في الغابات، وفتحوا المدارس واعتمدوا على الإنجليزية لغة رسمية -نظرا للتنوع الثقافي في البلاد وإلا فالعربية أفضل بكثير بالنسبة للبلدان ذات الأغلبية العربية- وهل تعتبر سنغافورة سقطت حضاريا وثقافيا. أو بالأحرى هل دولة نسب الأمية فيها والبطالة فيها شبه منعدمة وتضم ثالث أكبر مركز لتجارة النفط في العالم وتتصدر العالم في إنتاج البتروكيماويات وتحتل المرتبة الأولى آسيويا على مستوى جودة الحياة حسب "الإسكونوميست"، ويحتل جواز سفرها الرتبة الأولى عالميا مناصفة مع جواز السفر الألماني هل يمكن أن نعتبرها فشلت حضاريا وثقافيا لمجرد أن السينغافوريين لم يعودوا يعتاشون على خيرات المستنقعات كما كان يفعل أسلافهم الكرام.

وهم في ذلك مثل اليابانيين حين اتجهوا للعلوم وخلعوا الزي التقليدي وخلعوا معه الكثير من عاداتهم التي رأوا أنها لم تعد مناسبة، أو أن ضررها أكثر من نفعها، فهل أخطأ اليابانيون حين فعلوا ذلك؟ ولترى هذه الظاهرة بشكل أوضح لست بحاجة لنبش التاريخ السنغافوري أو الحاضر الإثيوبي يمكن أن ترى ردة فعل مجتمعاتنا العربية تجاه أي تغيير أيا كانت طبيعته أو مرجعيته، فقد احتاج الأمر عشرات السنين وعشرات العمليات الإرهابية لنقبل أخيرا الاستماع لفكرة الديموقراطية و"نكتشف" أنها هي الشورى. نفس المشكلة طرحت في مسألة تعليم وعمل المرأة، فلأن ظروفا ما كانت تٌبقي المرأة في البيت لا زال الكثيرون مصرون على بقائها هنالك للأبد، لأنها "عاداتنا وتقاليدنا".

لست أدعوا للتخلي عن هويتنا، لكننا لن نخسر شئيا بالتأكيد إذا أعدنا النظر في منظومة العادات والتقاليد وحتى القيم عندنا وأعدنا ترتيبها كما رتبها أسلافنا حسب ظروفهم

منطق الوصاية هو الآخر والذي يحب الآباء ممارسته، ثبت أنه يضر أكثر من ما ينفع بكثير فرسم مراحل حياة الأبناء بالتفصيل لم يعد ممكنا، لا في الدراسة ولا على مستوى الحياة الشخصية وأغلب التجارب من هذا النوع تفشل فشلا زريعا، وربما نحتاج أن نترك هامشا كبيرا لأبنائنا لاتخاذ قرارات حياتهم ونتخلى قليلا عن غريزة ممارسة "السلطة" حتى وإن كنا عانينا منها في مراحل ما من حياتنا. وحتى على المستوى العام، تتكرر المشكلة في مسائل فقهية كثيرة تم الاجتهاد فيها بناءً على ظروف معينة لكن هذه الاجتهادات ألبست ثوب القداسة فأصبحنا نفرض فرضا على واقع لا علاقة لها به لمجرد أنها قيلت في القرون السالفة، وهذا في الحقيقة إنما هو هرب وتملص من دورنا في حل مشاكلنا وتحليل واقعنا، فالحلول تقدم بناءً على الواقع وليس العكس.

كذلك ردة الفعل العنيفة التي كانت تجابه بها الحركات اليسارية وحتى التنظيمات الإسلامية الوسطية فقد كانت "التهم" في أغلبها مرتكزة على "الخروج على الأعراف والقيم"، "هذا فكر غربي دخيل علينا"، هذه الأفكار تتنافى مع مناهجنا "الملائكية" التي لا يأتيها الباطل من أي جهة، ولا تقبل مراجعة أو نقدا. وكانت النتيجة دائما إجهاض أي حركة فكرية أو سياسية أو "إفراغها من محتواها" بجعلها متماشية مع منطقنا المقدس.

لست أدعوا هنا للذوبان في ثقافات أخرى أو التخلي عن هويتنا، لكننا لن نخسر شئيا بالتأكيد إذا أعدنا النظر في منظومة العادات والتقاليد وحتى القيم عندنا وأعدنا ترتيبها كما رتبها أسلافنا حسب ظروفهم الزمانية والمكانية، وغيرنا من منطقنا في النظر لكل جديد فليس منطقيا -و لا عمليا- أن نحتاج عشرات السنين والنقاشات والسجالات والتكفير والقتل أحيانا لمجرد تقبل فكرة كان بالإمكان أن نقيمها منذ البداية من منطق محايد والاستفادة منها.

وما وصل إليه العالم اليوم ليس حكرا على بلد دون غيره فمركبات الاستكشاف اليابانية والهندية تصل يوميا مدارات الأرض لتأخذ مكانها مع المركبات الأمريكية، والبضائع الصينية هي الأخرى تغزوا حتى الأسواق الأمريكية والأوروبية، وقوانين العلوم وقواعد الاقتصاد لا علاقة لها بالعرق أو اللغة أو الدين، مثلها مثل المكتسبات الثقافية والفكرية وما لم نتعامل معها مباشرة دون حواجز أو تحفظات فلن نفهمها أحرى أن نبدع فيها، خصوصا في عالم لا يعطيك الكثير من الخيارات فإما أن تكون "متقدما" بمعاييره وإلا فأنت سوق مملوك اقتصاديا وسياسيا، تعتاش على ما يجود به البنك الدولي وصندوق النقد والخيرون من كل بلدان العالم. والواقع في النهاية يقول إن ثمة خياران لا ثالث لهما، إما أن تكون متقدما فرحا بتجربتك الناجحة، أو تعاني الجهل والفقر والتخلف والفساد فيجب أن تقر بالأمر الواقع وتستمع للحلول المقترحة علها تساهم في النهوض بهذا الواقع التعيس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.