شعار قسم مدونات

جراحٌ لا تَلتَئِم..

blogs رجل يقف وسط الزروع فى ضوء الليل

في صغري تعلمتُ في المدرسة أن كل جرح لا بد أن يلتئم بسبب تلك الصفائح التي تتجمع معاً وتتصل لتلئم جرحك.. أما الحياة فعلمتني أن هناك جراحاً لا تجد لها صفائح ولا قوة لإغلاق تلك الجراح والتي عادة ما تكون جراحاً في القلب.. جراح القلب لا تلتئم بل تضطر أحيانا لكيِّها بالنار، فقط هرباً من نزفها الدائم.. لا تتعافى جراحنا ولا تخمد أصواتها.. لكن تصمت لبرهة من شدة قمعها، قلوبنا تلك المدججةُ بالأسرارِ الموغلةِ في الخفاء.. لا تلبث أن تسنتفر كمونها حتى تنقض عليك في لحظة ضعف.. تفكر كثيراً، تنساب قطرات ماءٍ مالحةٌ من لواحظك، تمسحها لتشعر بمرارة الفقد والغربة في عالم ظننتَ يوماً أنك عرفته، حينها قد يفقدُ كل شيءٍ معناه في نظرك..
 
تقلب نظراتك وتفتح صفحات ذكرياتك التي غالباً لن تزيدكَ إلا ألمًا.. كيف يمكن أن تصبح ذكرياتٌ جميلةٌ بهذا الألم يومًا ما.. هذا فقط لأنك اشتقت لتعود تلك اللحظات.. تذكر حين تركت بيتك يومًا ما ولم تحمل معك إلا القليل فقط لأنك ستعود يومًا؟ تذكر حين رأيتَ عزيزاً على قلبك يلفظ أنفاسه الأخيرة أمامك حتى ظننت أن أنفاسك ستخرج معه؟ تذكر حين لم تَستطع حتى إدخال الفرحةِ على قلب أمك؟ تذكر حين انتظرت لساعاتٍ طويلةٍ ثم رُميتَ بسهم الخيبة؟ تذكر تلك التفاصيل الجميلة في بضع لحظاتٍ قضيتها صدفةً مع عزيز؟ تذكر حين رأيت وطناً يُسلب وأرضًا تضيع ومائدةً تتقاسمها كل الذئاب؟ تذكر حين ألقي بعلماءٍ عظماء في غياهب السجون؟ تذكر أن كل هذه جراح أمةٍ كاملة لم أستطع إكمالها لكثرتها؟
 

ستبدأ باستجماع قواك شيئًا فشيئًا، ستتفتح مداركك، ستصبح أقوى، ثم ستكون مستعدًا لتواجه العالم أجمع قائلاً : جنب الله لا جنب الناس.. وإن تآمر عليك الجميع.. حينها ستدرك أن الكيَّ آتى أُكلَه

كل هذا يا صديقي لا تنفع معه الصفائح!.. تلك جراحات لا تُشفى إلا بالكيّ! نعم أنواع الفقد كثيرةٌ لا تحصى آلامها.. وصدق من قال أن الفقد محنةٌ صعبة.. أصدق موقفٍ عرفت فيه الفقد أنقله لكم كما تأثرت به تمامًا: "كان يخطب رسول الله خطبة الجمعة، فلما كثر عدد الناس، قال أحد من الأنصار: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرًا؟، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شئتم.. فجعلوا له منبراً. فلما كان يوم الجمعة ومر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجانب الجذع الذي كان يستند عليه أثناء الخطبة وتجاوز الجذع وصعد المنبر الجديد وألقى السلام على الناس وأذن المؤذن، ثم بدأ في خطبته وفي أثناء الخطبة سمع الصحابة رضوان الله عليهم أنينًا يشبه أنين الطفل الذي فقد أمه، وابتدأ صوت الأنين يرتفع، وأصبح الصحابة يلتفتون يمينًا ويسارًا ليروا من أين يأتي هذا الأنين.. وإذا بالأنين يصدر من الجذع الذي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب عنده من قبل المنبر. وظل النبي يخطب وأنين الجذع يزداد وهو يبكي على فراق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس فراقًا يصل إلى بعد في الزمان ولا المكان، ولكن ثمان خطوات فقط بين الجذع وبين المنبر.

 

فانظروا كيف لم يطق الجذع وهو جماد ألا يصبر على فراق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمان خطوات فقط. وظل صوت أنين الجذع يعلو ويعلو، حتى لم يعد الصحابة يسمعون صوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب، فأوقف النبي خطبته ونزل من على المنبر وأقبل على الجذع، وأخذ رسول الله يربت على الجذع ويمسح بيده الشريفة عليه كما تفعل الأم مع طفلها الذي يبكي، حتى أخذ الجذع يهدأ شيئًا فشيئا حتى سكت، وضمه إليه وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "لو لم أحتضنه لحنَ إلى يوم القيامة".

  

إن كان الجذع يحن هذا الحنين أفلا نفعل نحن!.. حين يغزو الفقد أفئدتنا قد يكون العلاج رقيقا جدا كعناق رسول الله للجذع، وقد يكون مؤلما جدا كما الكي بالنار.. كل السر كامن في شخص من فقدته أو في ماهية ما فقدته.. في تلك اللحظات بالضبط ستبدأ إدراك حقيقة كانت كامنة.. ستدرك بعد كل هذا أن في الله عوضا عن كل مفقود.. أحيانا علينا أن نعاني لنتذكر من نحن.. لنوقن أن في قرب الرحمن رحمة على قلوبنا.. ".. لعلهم يرجعون "لربما حينها ستنظر إلى نفسك في المرآة، سترى أشياء كثيرة في عينيك.. ستدرك أن الضائع من فقد الله، حين ترمي كل ما على كاهلك وتوكل أمرك للرحمن الرحيم كم ستشعر أن جبالا انزاحت عن قلبك.. " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ". ستبدأ باستشعار ذلك القرب شيئا فشيئا.. ستشعر به تعالى يخاطبك ".. فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ.. ".. "وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ۚ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ".. ".. لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ"، سيهدأ أنين قلبك.. وكأن يدًا حنونًا ربَّتت عليه.

 

ستبدأ باستجماع قواك شيئًا فشيئًا، ستتفتح مداركك، ستصبح أقوى، ثم ستكون مستعدًا لتواجه العالم أجمع قائلاً : جنب الله لا جنب الناس.. وإن تآمر عليك الجميع.. حينها ستدرك أن الكيَّ آتى أُكلَه.. حتى سكن ألم الفقد تمامًا، فماذا فقدَ من وجد الله! قد لا تكون الأمور ورديةً في لحظاتٍ لاحقة.. لكنك حينها ستعلم كيف تتخطى حزنك، ثم ستكون على يقين أن الدنيا ليست جنةَ المؤمن حتى ينعم فيها بكامل الراحة، فهناك ابتلاءٌ وصبرٌ متكرر.. وكل هذا سيمضي وسيبقى المجد للصابرين..

 

تلك الجراح التي لا تلتئم كفقدانِ وطنٍ أو فقدان عزيز أو حتى تلك الخيبات.. تهون إن كان زادُنا الصبرُ والتوكل وليس التواكل.. ولا عَزاء يبقى للساخطين اللاعنين لظروفهم وحياتهم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.