شعار قسم مدونات

فك الإشكالية في فهم المدارس التشكيلية

blogs لوحات

تصور لك هذه المقالة أن هناك فنان اسمه "ستفين" وهو شخصية خيالية، مر بمراحل مختلفة الأزمنة والقرون التي رافقت نشوء أهم المدراس التشكيلية، بغية تقريب الفهم وتفكيك وتبسيط العقدة لدى القارئ الكريم. ولا أنوي من خلال هذا المقال إلى سرد التواريخ والغوص في التفاصيل، ولو فعلت هذا لعززت المقال بالتواريخ ما شاء الله لي أن أفعل، لكني أدعها لك للبحث والاستقصاء والسؤال، وحسبي بذلك وكفى.

فإذا أردنا أن نفهم أي ظاهرة، علينا ان نُعيدها إلى جذرها وقعرها لنفهم كيف تكونت وتشكلت، وكذلك الحال فيما يتعلق بالظواهر الفنية ومدارسها وشخوصها، لندرك الفلسفة التي انطلقت منها، فلو فرضنا أن هناك فكرة في مخيلة أحدهم ستُسند هذه الفكرة إلى إحساس ليُعبر عنها سواء بالغناء أو الشعر أو الرسم أو الرقص أو نحوه، فإن هذا التعبير والإسناد يسمى فنًا، وإن اختلفت الرسالة التي تضمنتها، فإن هذا التعبير "الفن" والتشابه والاختلاف لنفس الفكرة مهد إلى ظهور هذه المدارس التشكيلية المعروفة اليوم.

فلقد كان ستفين شاب يافعٌ يعيش في القرون الماضية في فرنسا، حيث الكنسية تسيطر على كل شيء في مفاصل الدولة، ومن ضمنها الظواهر الفنية التي كانت بدورها محصورة على تجسيد الإله ("مريم العذراء وعيسى" عليهم السلام) ومحرمة وممنوعة عمن سواهم إلى حين قرر بعض الملوك كسر هذه القاعدة، من باب تخليدهم تارة والتفاخر بأشكالهم وتصويرهم تارة أخرى، وهنا برزت المدرسة الكلاسيكية والتي تعني الطراز الأول كمصطلح أخذ من الفن اليوناني الذي سعى إلى الكمال والجمال في نتاجه الفني.

الطبيعة الصامتة أو STILL LIFE يعنى رسم الكائنات والجمادات في غير مكانها، مراعياً الضوء والظل والتكوين الفني

فإذا قمت بالبحث محرك البحث "قوقل" ستجد أن النتائج لوحات لشخصيات ترتدي ملابس أنيقة فخمة من ملوك ولوردات وأرباب الأموال وكمثال مشهور لوحة الموناليزا لـ ليوناردو دافينشي. ثم بعد الثورة الفرنسية، وبداية عصر النهضة، تحرر استقين من تلك القيود التي كانت مفروضة عليه، ليعبر عن إحساسه الداخلي والمحيط به بحرية تامة متأثرا بفنون الحضارات القديمة كالإغريق والرومان، فشاهد العاشقان قرب الشجرة فرسمهم وشاهد الطفل يجري نحو أمه فجسد ذلك المشهد بلوحات ملكت عليه قلبه ومشاعره، فظهرت المدرسة الرومانسية حيث باتت فكرة العمل أكثر تحرراً إذ تحررت من التقليدية الموجودة في الفن الإغريقي، وهكذا تجد فرط الإحساس تهيمن على رواد هذه المدرسة.

ثم رأى الفنان الخروج هذا النمط ورسم المشاهد حوله كما هي ونقلها على اللوحات، فرسم الشيخ الكبير والمزارعات في الحقل وربة المنزل وهي تعد الطعام، فظهرت المدرسة الواقعية والتي تعنى بنقل الواقع كما هو، الأمر أشبه بعملية التصوير الفوتوغرافي، ومن أبرز روادها (كوربيه). وتجدر الإشارة هنا أن في القرن العشرين ظهر توجه يكمل ما بدأت به هذه المدرسة وهي تحدي التصوير الفوتوغرافي ونقل الصورة بتفاصيل دقيقة جدا فظهرت "المدرسة الواقعية المفرطة".

أثر على نفسه ستفين العزلة في كوخة القديم واعتزال الناس جميعًا، وبينما هو صامتً كعادته متأمل وكان أمامه مجموعة أشياء مختلفة، خطرت في باله فكرة أن يعيد رسم هذه الجمادات والكائنات غير الحية! فظهر توجه أخر وهو ما يعرف "بالطبيعة الصامتة أو STILL LIFE"ويعرف يعنى برسم الكائنات والجمادات في غير مكانها، مراعياً الضوء والظل والتكوين الفني، كأن توضع سلة فاكهة على طاولة أو ورد في زجاجة، والمتأمل في نتائج البحث عن هذا التوجه سيرى جمال هذا الفن.

وحينما ضاق المكان به قرر ستفين الخروج الى الطبيعة حينها اختلف عنده كل شيء واضطربت عنده الموازين والأفكار! ماذا يحدث؟ مروج وغيوم وأشجار وأنهار وتلال وجبال وشروق للشمس وغروبها والقمر! فأتى في اليوم الثاني متحمساً لكي يرسم غروب الشمس فهيئ لوحة الرسم وضبط أبعاد العمل وبدأ يخلط الألوان فإذا بالشمس قد أفلت! وذهبت تلك السلاسل الذهبية التي تكونها أشعتها، فجاء باليوم التالي وجد أن المنظر قد اختلف تكوينه بالكامل! ما الحل؟ فقرر رسم انطباعه الأول عن الغروب بأسرع وقت ومن خلال ضربات لونية إبداعية سريعة، فظهرت (المدرسة الانطباعية) والتي تعني رسم الانطباع الأول عن الشيء من خلال الألوان بشكل علمي لأطياف الضوء وضربات الفرشاة والبعد عن الزيف والبعد الثالث في العمل والاكتفاء بإحساس الفنان الداخلي من خلال تفاعله مع الطبيعة وتحليل منظومتها، ونجد ذلك حاضراً في لوحات الفنان فان كوخ ومونيه.

 المدارس التشكيليٍة مهما اختلفت تبقى وسيلة من عدة وسائل ليعبر الفنان من خلالها عن ما يعتريه من مشاعر وانفعالات وتناقضات!
 المدارس التشكيليٍة مهما اختلفت تبقى وسيلة من عدة وسائل ليعبر الفنان من خلالها عن ما يعتريه من مشاعر وانفعالات وتناقضات!
 

وبعد ظهور التكنولوجيا وضعت ستيفن ورفاقه في مأزق كبير، حيث أن الكاميرا تفوقت على كل محاولات الرسامين ونتاجهم الفني، فما السبيل للخروج من هذه الإشكالية؟، فبعد لقاءه بصديقة الدكتور النفسي واخذ بقراءة دفتر كتبه الدكتور عن حالات بعض المرضى واحلامهم والكوابيس التي يرونها في المنام، قدحت في رأس ستفين أن يجسد هذه الكوابيس في لوحات، فظهرت المدرسة السريالية والتي تعنى بتصوير الأحلام والكوابيس واللامنطق واللاواقع، واجمل ما قيل فيها "أن ترسم وأنت نائم".

فالمتأمل في نتاج هذه المدرسة يجد ما ذُكر أعلاه حاضرا وبقوة من لوحات خارقة للواقع بحيث يصعب للكاميرا أن تصل اليها، كأن يكون شخص برأس بالون كبير أو الشمس قريبة جدا أو ساعة يذوب جزء منها ونحوه، ومن أهم روادها سلفادور دالي. ثم بدأ لستفين رأيً أخر حينما تأمل الشمس مرة أخرى: فقال: لا! إن كل شيء في الوجود ما هو إلا اشكال هندسية! فالشمس دائرة والقمر دائرة، والوجوه منها البيضوي ومنها الدائري والأنف المدبب، والعين البيضوية، فظهرت المدرسة التكعيبية التي تتخذ من الأشكال الهندسية عكازاً تستند اليها في بناء تفاصيل اللوحة، فتجد اللوحات في هذا التوجه الفني التي تعد الهندسة أساس لها، من أهم مؤسسيها بابلو بيكاسو. 

ومن ثم بعد تبسيط هذه الأشكال واختزالها وإخفاء معالم اللوحة بالاعتماد الخطوط والضربات اللونية وترك اللوحة من غير مدلول واضح المعالم، ظهرت المدرسة التجريدية والتي تتسم بالجدية ومن أهم روادها فاسيلي كاندينسكي وبيت موندريان. ومع تسارع الأيام وتسارع ظهور التكنولوجيا بدا لستفين فكرة أخرى وبات يفكر في المستقبل! وكيف سيكون الفن ومدارسة وماهي عوامه، فأنشى المدرسة المستقبلية! والتي دعت الى رفض الماضي ومقاومته والانفصال عنه، ومعالجة المستقبل وكان ذلك واضحا من خلال لوحاتهم التي ركزت على سرعة الضوء وحركة الأجسام، بحيث رسموا الخيل بأرجل عديدة دلالة عن سرعة انتقالاته! ومن أهم مؤسسيها "فيليبو توماسو مارينيتي". وخلاصة القول أن المدارس التشكيليٍة مهما اختلفت تبقى وسيلة من عدة وسائل ليعبر الفنان من خلالها عن ما يعتريه من مشاعر وانفعالات وتناقضات!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.