شعار قسم مدونات

احملوا العمر عني فإني طبيب!

مدونات - طبيبة معمل تحاليل

لم أرَ في حياتي قط أحدًا يكتبُ عن رحلته في بدايتها، لكنهُ قد يفعلُ إذا كانت الرحلة طويلة ممتدة، فيُسقطُ شقاء الطريقِ على ورقةٍ مسكينة، تتحمل منه كل ثرثرته وعصبيته إذ يلقي إليها غبار تعبه، وقد يفعلُ ذلك على مراحل متعددة، لأن طولَ المحتوى لا يحتمل إسقاطه مرة واحدة، ولأنّ الغيم الذي لبّد أجواء مدينته لن يكتفي بفصلِ شتاء واحد، وأظن أنني أفعل شيئاً من ذلك، حين أن الكتابة هي طريقتي الأخرى لتناول الأكسجين، أو طريقة أنجع لإحيائي .
 
اخترتُ، أو اختار لي القدر -في مرحلةٍ ما- أن أشقّ عُباب الطبّ وأن أخوض في طرقاته الوعرة، وحُكِم لي أن أجدّف في بحره ربعَ عمري الذي عشته، وسأجدّف أكثر في محطاتٍ كثيرة قادمة . وقد دخلتُ هذه الكلية بشهادة طالب ثانويةٍ وقلبٍ طائش لا يحمل سوى صخب الأمنيات، وسأمرّ من عتبة الخروج قريباً بختمِ الطب وكتفٍ مُثقلةٍ بسماعة طبيبٍ كان قد جسّ في رحلة تعلّمه أوجاعاً شتى، فشفَّ قلبُهُ الطائش واكتظّ بحكاياتِ الناس، أنينهم، ووجوه ضعفهم، وارتجفَ طويلاً حينَ أدرك حقيقة المعنى، وعلم بالمآل الذي قاد نفسه إليه حين اختار من صفحة القبول والتسجيل في الجامعة بند "كلية الطب".
 

ستة أعوامٍ نكبر فيها تدريجياً إلى أن نجد أنفسنا كبرنا فجأة، وتسرب إلينا شيءٌ من وقار الشيب أو بعضٌ من هدوء الحكمة، ليس ذلك تعميماً أو حقيقة، إنما ما هو مفترض أن يحصل

طبيب!، وعلمتُ أن الأمر أكبر بكثير من حرف "د." قبل الاسم، إنها المسؤولية الضخمة التي ترثها بمجرد تخرجّك من هذه الكلية، أو بمجرد دخولك إليها حتى، وإن الثقة الكبيرة التي تضعها العامة فيك فتجعل منك الوجهة التي يقصدونها إذا توجعوا أو اشتكوا كفيلةً بأن تجعل من قلبك مجسّاً حساساً، وكفيلةً بأن تضيف أعواماً إلى عمرك، فتصبحُ فجأةً أكبر بكثير مما هو مفترض، وأنضج مما هو متوقع، لا تعيش إلا لتبذل كل ما استطعته كي تفي بالثقة التي وُضعت فيك .وإني لن أفكر بيوم أن أستخدم حرف "د."، يكفي ارتجافي مرة واحدة أمام هولِ الطب وهول محتوياته، لا أريد أن أرتجف مرة أخرى أمام اسمي المسبوق بهذا الحرف، حين أن اسمي المجرّد هو حقي الأخير المتبقي لي في ممارسة بساطة الأشياء.

 

لا أقصد من حديثي هذا أن الطب كهف معتم أو ورطة! لا.. البتّة! لكن -إن كنت طبيباً أو مشروع طبيب- لا تبحثَ عن الفرح في الطب، الطب وأهله ليسوا للفرح، إنما هم للبذل، للبذل يا صديقي.. وفي البذل سعادةٌ خفيّة غير موصوفة، ابحث عنها، وإنكَ وإنّا، يومَ نطقنا لموظف القبول والتسجيل في الجامعة "كلية الطب"؛ نذرنا أنفسنا له تلقائياً، سواء انتبهنا لذلك أو لم ننتبه، أو سواء كان ذلك بإرادتنا أم بغير ذلك، فإننا نذر، وقد فعلناها، إذن فالأمر مفروغ منه، ولا داعي لمناقشته.

  
ستة أعوامٍ نكبر فيها تدريجياً إلى أن نجد أنفسنا كبرنا فجأة، وتسرب إلينا شيءٌ من وقار الشيب أو بعضٌ من هدوء الحكمة، ليس ذلك تعميماً أو حقيقة، إنما ما هو مفترض أن يحصل، فذلك الكائن الهادئ الذي يمشي على مهلٍ خاشعاً بين الناس يمتص منهم كل ما قد يبثونه في لحظة ضعف، -ذلك الكائن- هو النتيجة الطبيعية التي من المفترض أن تؤول إليها الأدمغة التي تورّمت في كتبِ الطب الضخمة، وهو المصير الطبيعي الذي تصير إليه القلوب التي شهدت تجاربَ طويلة على الخط الفاصل بين الحياةِ والموتِ طيلة هذه الأعوام.

 

ها أنا، على بُعدٍ قليل من تخرّجي، وعلى مقربةٍ من أن أحملَ هذا الميراث بثقله وعظمة مسؤوليته، وإني طيلة هذه الأعوام الماضية كنتُ أتجهّزُ لأن أستطيع ذلك، وفي كل يومٍ إضافيّ يقرّبني من هذا، أرتعشُ أكثر لجلالته وقدسيته، وأبتهجُ أيضاً لأني صرفتُ عمري الذي عشته في أمر يستحقّ، ولأني سأنفقهُ في وجهٍ من وجوه إسعاد الناس وتطبيبهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.