شعار قسم مدونات

شخصية لم توثّق بعد!

blogs تأمل

دائماً ما عوّدتني أناملي أن تُحرّك إطاراتها باتجاه ثاني سطرٍ من الورقةِ البيضاءَ المُتخنة بالّلا شيء، كي تُفرغ ما تبقى من حبرٍ في جوف الأقلام التي لا تملك إلّا أن تكتب ما يُشير الفؤاد ماضية إلى حيثُ لا تعلم، واذ بها انتهت في عنوان مناسب يُقيَّد آخر المطاف! إلّا في هذا النصّ؛ حيث تمرّد قلمي وأبا إلا أن يُعنون أولاً على غير عادة، لا مُستشيراً ولا مأموراً وبالعقل المليان عنونَ ما عنوَن.

عندما انتصف عقدي العشرين، وفي الوقت الذي يخرج فيه من هم في أقراني من تحت أنقاض المراهقة ويبدأون بتنصيب مبادئهم على اعتبار أنهم قد نضجوا، بدأتُ بخذلان أول مبادئي، حيثُ أصبح الجميع على علمٍ بما يدور في رأسي ولم أعد خارج القافلة، حتى أني بتُّ سطحياً الى أبعد ما يكون بعد أن كان العمق عنواني، إلى ان أخذتُ من الحياة ما يكفي لإشعال أول أصبع في سبيل النور الذي دائماً ما يظهر آخر النفق ظنناً أنّي أملكُ ما يكفي للعبور، ولم يظهر النور بعد!

تقدّمتُ الى أن أجبرتُ على إشعال أصبعي الثاني في الوقت الذي سقط فيه ثاني مبادئي وكأني أشعر أن الحياة تُجرّدني ما كان مُسلّماً عندي في يومٍ مضى، فكلما أشعلتُ أصبعاً، سقط مبدئاً حتى عبَس النفق وزاد ظلاماً، فبدأتُ أتحول من شخص قادر على ضبط ايقاع حياته، إلى شخص مهتز لا يُسمع له صدى، فعُدتُ ذلك الكائن المسالم، وألقيتُ مثاليتي إلى ما لا نور!

لم أعد ذلك الشخص المتعجرف، المتباهي بالكتب السبعمائة اللاتي تمت مطالعتهن في آخر عشر سنوات، وفي شتى العلوم والآداب والتاريخ والجغرافيا إلى الفلسفة ومقارنة الأديان والمذاهب، في الحقيقة لم تكن العملية سهلة ومرنة كما كنت أحسب، ليس من السهل أن تكون منافقاً في واقعٍ مليء بالمنافقين، فهي منافسة قذرة على من يثبت أنه الأسوأ.

أجد نفسي مشافى معافى بين حقول القمح وثمار الذرة وبعض أزهار الأوركيد، الشمسُ مُستلقية على جانب السماء مُفترشة بعض الغيم، ومُلتحفة بحفنة نجوم لا يراها أحد سواي

بدأت الحكاية عندما تمرّد إطارُ سيّارتي حديثة الصُنع عليّ، خذلني في مُنتصف الطريق السريع، مضى كالأمّ الثكلى على قُرّة عينها المُهاجر منذ عشرات السنين، مُتهوّراً دون أدنى التفات إلى ماذا سيؤول، مُتجرّعاً كلّ ما استلذ وطاب من هزيمة تاركاً خلفه الكوارث. اللاوعي حينها، اكتفى بنصف المركبة والمُحرّك، حتى تهافتت عليّ سخافة المواساة بأن الحديدُ يعوّض ولم يعرفوا أني كنتُ وفيّاً معها ولم أكن أستحقّ ذلك.

بدأ رجالُ الأمن بتطويق المنطقة، خيوط صفراء كُتب عليها (سرّي للغاية) التفّت حول المعادن المتناثرة في أرجاء الطريق السريع، أصوات غير مفهومة تنبعث من أجهزة اللاسلكي قد يُفهم منها أنهم عليهم أن يُسرعوا، مجموعة من فاعلي الخير يصوّرون ما يحدث بالأجهزة الذكية، ضوء خافت في آخر الطريق لمطعم آسيوي يبيع الدجاج مع البرتقال على الطريقة التي أحبها، مشهد الدماء على أبواب السيارة لم يكن واضحاً بما فيه الكفاية، ثمّ عربة حديدية مُزعجة تحملني داخل شاحنة كبيرة فيها أسلاك مخيفة تحيط بي من كل صوب، والضوء الأزرق والأحمر يعكس على الشباك وكأن أمسية لفرقة سوبر جونيور تقيم فوضاها داخل رأسي.

عمليات عمليات، كانت آخر جملة توكيدية سمعتها فور وصول الشاحنة الكبيرة التي لازلت أجهلها -حقيقةً- إلى المستشفى، قبل أن أرى بعيني التي لازالت تعمل أنذاك، لوحٌ كبير مكتوب فيه (من هذا الباب يدخل أفضل الأطباء في العالم)، بجانبها جدول مناوبات الممرضين إذا صحّت ملاحظتي، ضوء أحمر ورجال نينجا ملثمين حولي، و(شيشة) ترسلك إلى عالم آخر ثم سبات إلى حيث لا أعلم.

دقائق قليلة على حسب توقيت المستغيث التائه، أجد نفسي مشافى معافى بين حقول القمح وثمار الذرة وبعض أزهار الأوركيد، الشمسُ مُستلقية على جانب السماء مُفترشة بعض الغيم، ومُلتحفة بحفنة نجوم لا يراها أحد سواي، ثمّ بنظرة سُرق بعضها للوراء واذ بسالي تُحيط بي كحدود الكون، وفجأة لم اعد أرى الشمس ولا السماء، حتى حقول القمح لم أعد أراها..

لا أدري كيف عرفت أن اسمها سالي، ربما شعرها الغجريّ كثير السواد، وحَمَارُ وجنتيها كأنّهنّ تفاحتينٍ قُطفتا لامرأة ٍ تحملُ جنين في جوفها وتمنّت حبّتين تفاحٍ من ريف بولندا، وعيناها كأنهن محبوكتان من خيوط الشمس، ربما هذا ما جعلني أن أسميها سالي، لا اذكر طول ذراعيها بقدر ما أذكر دفئهما، ولا أذكر لون الملابس التي كانت تلبس بقدر ما أذكر عطرها ولا اذكر أول كلمة قالتها بقدر ما أذكر حنان صوتها، تشبّثتُ كما الغريق بثوبها ورأيتُ فيها ملجأً يكفي لضحايا الحرب العالمية القادمة، وكأني لم أرَ أنثى من قبل.

فعندما تتخلى النقاط ُ عن الحروف وتخذل الكلمات الجُمل ويبئس الكاتب، يأتي من خلف الظلال مُتيّمٌ يقضي على التمرّد، هذا ما يحدث إذا ما مزقّت الأرض نفسها لتجود بالحشائش الخضراء والزهور، من بعد كربٍ أصابها وحال دون ذلك، هو فصل الربيع من يُزهر الأبصار ويُقرّ الأعيُن، وهي الربيع إذا ما طلّ من بعد جفافٍ دام آلاف الأيام.

سالي الربيع، ظللتُ أرددها على مسمع الكوكب كببغاء تعلم أن ينطق أول كلمة في الوجود ومازال يمرّن نفسه على قولها في كلّ حين، حتى أخذتني لبستان زهور حبلى بالرحيق، وثمار تُدلّي بقطافها فوق رؤوس العاكفين العاشقين، وعصافير ترقص في صدور الشجر، ونبع ماء يحفر قناة ليجري إلى شقوق الأرض، الغريب أني لم ألتفت لكلّ هذا ولم أشبع ناظريّ بتلك الطبيعة الجميلة ولم ألقِ بالاً إلّا لعيون تعكس الشمس وقت الغروب يحملها وجهٌ كالملاك وقت التبشير.

عدتُ للمنزل بلا سيارتي وبلا سالي متوشحاً ثوب النفاق ومجهّزاً (سيناريو) موحّد للقصة التي حدثت معي نظراً لتكرار السؤال
عدتُ للمنزل بلا سيارتي وبلا سالي متوشحاً ثوب النفاق ومجهّزاً (سيناريو) موحّد للقصة التي حدثت معي نظراً لتكرار السؤال
 

بدأتُ وسالي برسم أول خطوات الحياة الأبدية في عقولنا وبدأنا نحلم ونتخيّل، نريد السفر إلى إسلام أباد لمشاهدة مباراة كلاسيكو الكريكت، أو إلى الحي الصيني في شيكاغو، أو ربما نذهب إلى بانغا سنان لنتأكد من وجود الألف جزيرة هناك، أو حتى نستلقي على شواطئ ريو ديجنيورو ذات الرمال الناعمة، ثم بدأنا من أقصى الشرق إلى غربه نركل الأحلام من ناصية إلى أخرى حتى استقريّنا على السفر إلى جزر النمسا كمنفى أبدي وبمنتهى البراءة!

في الحقيقة، لم تكُن جزُر النمسا فكرة سديدة لقضاء بقية ما هو جميل، الكوخ اللامُهذّب ورائحة التفحّم وعبق التاريخ والصخور الناطقة، لا تكفي للنهاية، حتماً عيْنكِ اليُسرى ستغنيني عن بحيرة زيلامسي، ووجنتاكي أجملُ عندي من زهرة الجنطيانا، وبنظرة واحدة فقط لقوامك الخلّاب استحضر شجر أدويلويس الألبي أمامي..

ثمّ أنّ الوقت الذي سيضيع على متن الطائرة، استطيع أن أسرق فيه إثنا عشر قُبلة وثلاثة أحضان، وذاك عندي كاوروبا مجتمعة بما فيها بلاد الفايكنج بأنهارها وبحارها ومحيطاتها وحضاراتها، ثم أن جواز سفرنا لا يُرسلنا إلى الجانب الآخر من الطريق!

تركنا الأحلام خلفنا، وحلّ الظلام وكأن شيئا ما لا يبدو صائباً، بدا لي أن هذا الشي الذي لا يبدو صائباً هو أني لم أعد أشعر بوجود سالي، خفقة قلب ولهفة مُتعبة وشهقة تملئ الجبال صدى، ثم ّ صفعة قوية على وجهي وهزّة أرضية تقلب المكان، عين تُبصر أجهزة ترسل إشارات غريبة وعين أخرى تبصر سالي، أذن تسمع صوت جهاز تخطيط القلب المزعج وأخرى لازالت تسمع سالي، اغفاءة عشر دقائق لا تكفي لإشباع حواسك الخمس من واقع يرفضه الواقع وتقبله فقط أنت، شتان ما بين الأمنيات وصداها على حياتنا، بالمناسبة كانت الصفعة من صديقي القلق جداً على غيبوبتي التي دامت خمس دقائق فقط.

عدتُ الى المنزل بلا سيارتي وبلا سالي متوشحاً ثوب النفاق ومجهّزاً (سيناريو) موحّد للقصة التي حدثت معي نظراً لتكرار السؤال، ثم ّ ودّعت آخر ضيف وودعتُ معه ثوب النفاق ذاته، ظللتُ منتظراً أمام المنزل لعلّ مبادئي ضلّت طريقها وعادت إليّ، فقد سئمت ثوب النفاق، أريد شيء ما بإمكانه تقليص انتباهي، أو قتل الوعي الذي أحمل، أحتاج أن أكون ساذج لا يفهم شيء أو جبان لا ينتبه لوجوده العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.