شعار قسم مدونات

ثلاثون ساعة في مشفى الطب النفسي

blogs الصحة النفسية

دخلت مشفى الطب النفسي لأول مرة في حياتي، وهنا امتزجت بداخلي مشاعر الرهبة مع القوة، نعم رهبة باعتباره مكان سرّي، بداخله من المرضى يرفضون البوح بمرضهم، ومنهم من لا يعرف أنه مريض أصلاً لذهاب عقله، وهناك من العاملين فيه من يخجل من ذكر مكان عمله، أما قوتي تولدت من رغبتي في التعرف على الأسباب المؤدية لهذا المرض، كي أستطيع تقديم يد العون لكُلِ من يعاني منها.

كئيبٌ هو المكان رغم توسط حديقة فيه، أبوابٌ حديدية وأقفال كبيرة، خشية من هرب بعض المرضى الخطيرين على حد وصف الطبيب، رائحة الانكسار تنتشر في المكان تُخبرك بفيضٍ من قصص الحزن لأشخاص توقفت بهم الحياة على عتبات المشفى. ثلاثون ساعة من وجودي في المستشفى، علمتني دروساً كثيرة لو أنفقت الكثير من المال والوقت لما تعلمتها، وكُل الدرس يكمن في "نعمة العقل"، التي لو لم نملك سوى هذه النعمة لكفتنا.

في مجتمعنا يخجل المريض النفسي من أن يبوح بمرضه، لأن في بوحه لمن حوله، ستلاحقه النظرات، وسيتغير الكلْ معه، حتى من أقرب الناس له الأهل، الإخوان، الحبيبة وشريكة العمر. هل تعتبر عزيزي القارئ المرض النفسي وصمة عار؟

إن علمِ المجتمع من حول المريض بمرضه، من سيقبل بفتاة شقيقها مريضٌ نفسي، وكيف سيكون حال ابنته التي تنتظر مولودها الأول إن علم زوجها

لا تتسرع بالإجابة وتجيب بمثالية، أنا سأجيب عنك للأسف، المجتمع العربي لازال ينظر للمرض النفسي على أنه وصمة عار، ولابد وأن يظل في طي الكتمان، وذلك تجلى عندما أخبر الطبيب والد لإحدى الشباب بأن مرض ابنه نفسيٌ وليس جسدي، وعليه أن يأخذ دواء مدى الحياة، انسحب الأب بهدوء ورفض الفكرة حتى من داخله، ولم يُخبر أحد، مزّق ورقة الطبيب ولم يعد له مرة أخرى.

أسبابٌ كثيرة من وجه نظر الأب، خاصة وأن له شقيقات في عمر الزواج، إن علمِ المجتمع من حوله بمرضه، من سيقبل بفتاة شقيقها مريضٌ نفسي، وكيف سيكون حال ابنته التي تنتظر مولودها الأول إن علم زوجها، اجتاحت ذهنه العديد من الأسئلة، ليخرج بحلٍ كما اعتقد بأن يخطب له وهكذا تُحل هذه الأزمة.

انتهت أحداث القصة قبل أن تبدأ، سارع الأب بتزويج ابنه الشاب خلال شهر فقط بحجة " خير البر عاجله"، لم تنتهي الأسابيع الأولى للزواج حتى دخل الشاب في حالة من الاكتئاب الشديد ورفضه لكل من حوله، حتى العروس، تصرفاته أصبحت غير مقبولة، انعدام للشهية وخسران للوزن، ليستبدل بعدها عش الزوجية بقسم المبيت بمشفى الطب النفسي، والعروس عادت لعائلتها بقلب حزين ولقب مطلقة وعليها تستعد لمرحلة الهجوم المجتمعي الذي لن يرحم وجعها.

ولا أنسى بكاء إحداهن وهي تبكي متوسلة لزوجها ألا يتركها ويذهب، وقد أتى بها لأنه ولأول مرة بعد خمس سنوات زواج يشعر بالخطورة على نفسه وعلى اولاده بعد ما صارحته برغبتها في قتل طفلتهم الوحيدة ،ولكن تريد منه طريقة لإخفاء ابنته، ماذا حدث لها فهي تعاني من مرض نفسي والزوج يعرف وتأخذ الدواء بانتظام، وقد تأقلمت مع المرض وكانت زوجة منظمة وتجيد جميع أصناف الطعام، ولكن لجهل المجتمع بالمرض النفسي، استمعت لنصيحة الأم المشفقة علي ابنتها بأنها خسرت الكثير من وزنها وعليها ان تترك الدواء والحجة انها شفيت، والنتيجة تدهور للحالة وخسارة البيت والزوج ، لتنتهي في غرفة العزل بالمشفى.

حالاتٌ عديدة وقصص عجيبة، وقد ذكرت بعضها في هذه المقالة التي لا مجال لحصر كلُ شيء بها، إلا أنني أريد وضع اليد على المشكلة. مشكلتنا في كلتا الحالتين تكمن في إنكارنا للمرض وعدم إيماننا بوجوده، وإن أخذنا العلاج نتركه بعد مدة مُقنعين أنفسنا بالتعافي التام.

إن علم الإنسان أن كل شيء في حياته خير، فسيكون بمثابة الوقاية من المرض، وإذا مرض فالصبر علاج، وبالرضا تتحقق السعادة
إن علم الإنسان أن كل شيء في حياته خير، فسيكون بمثابة الوقاية من المرض، وإذا مرض فالصبر علاج، وبالرضا تتحقق السعادة
 

مجتمعاتنا بحاجة لاستبدال ثقافة النقص التي تُلصق بالمريض بثقافة تقديم العون لا الشفقة، والتعامل مع مرضه بشكل طبيعي، كغيره من الأمراض، كأن يأخذ حقه في العلاج، يُخبر من حوله لالتماس العذر له ومساعدته. جميعنا عرضة للمرض النفسي، فنحن بشر، ونتعرض لضغوطات الحياة، واذا لم نتحرر من تلك الضغوطات أولاً بأول، سنصبح أسرى للمرض النفسي وحينها يقع المحظور، وقد دلنّا ديننا الحنيف للوقاية منه منذ آلاف السنين بحديث الحبيب محمد عليه أفضل الصلوات "عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ".

إن علم الإنسان أن كل شيء في حياته خير، فسيكون بمثابة الوقاية من المرض، وإذا مرض فالصبر علاج، وبالرضا تتحقق السعادة. إذن علينا أن نفكر في صحتنا النفسية، كصحتنا الجسدية، وكم نُغدق على أجسادنا وشكلها الخارجي الكثير الكثير، بينما نهمل صحتنا النفسية التي لا تكون بمعزل عن الصحة الجسدية على الإطلاق، فإن تمتعنا بصحة نفسية سينعكس ذلك بشكل تلقائي على صحتنا الجسدية. أصلحوا داخلكم، ولا تجلدوا أنفسكم بكثرة لومها، أحبّوا الخير لأنفسكم وللآخرين تسعدوا وتصحّوا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.