شعار قسم مدونات

البقري وشوكان وعادل صبري.. تاريخ العنف القضائي بمصر

مدونات - السجن

يقسم علم الاجتماع الحديث أشكال العنف إلى قسمين رئيسيين هما العنف الجسدي والعنف الرمزي أو المعنوي ويندرج تحت كل فرع من الاثنين أشكال كثيرة من العنف يتم استخدامها في كثير من الأحوال بدأ من الصراعات المسلحة وحتى القمع من قبل نظام ديكتاتورى تجاه معارضيه. في الحالة المصرية نجد أن النظام الديكتاتورى منذ تأسيس الجمهورية المصرية في خمسينات القرن الماضي أسرف في استخدام "العنف القضائي" وهو فرع من العنف الرمزي أو المعنوي.

أولي حلقات العنف القضائي التي شهدتها الجمهورية الوليدة أنذاك كانت بعد أسابيع قليلة من حركة الجيش في يوليو 1952 حيث ألهمت الثورة ومبادئها 8000 عامل في أحد مصانع الغزل والنسيج بكفر الدوار فقاموا بإضراب احتجاجا علي الفساد المستشري في شركة مصر للغزل والنسيج وسوء الإدارة في المصنع وللمطالبة باستبعاد بعض المديرين الفاسدين وزيادة الأجور وبدل الخطر مع انتخابات حرة لنقابة العمال لكن الأمن تصدي بالعنف لهذا الإضراب حيث حدثت اشتباكات بين قوي الأمن وبعض العمال المضربين أدت إلى إصابات وحالات وفاة علي الجانبين مما استدعي تدخل مجلس قيادة الثورة والذي تحرك علي الفور واحتجز جميع العمال المضربين معتبرا أن الإضراب المدعوم من "حدتو" الشيوعية (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) محاولة لإسقاط الثورة وهدم النهضة الوطنية بحسب تعبير الصحف في وقتها.

 

رأينا المحاكمات العسكرية للمدنيين والبلاغات الواهية ضد المعارضين بتهم معلبة كالانتماء لجماعة محظورة محاولة هدم الدولة أو تشويه سمعة مصر

فشكل علي الفور محكمة عسكرية بعضوية ضباط غير مؤهلين قانونيا متجاهلا تماما المؤسسة القضائية المصرية مع حرمان العمال من حقوق الدفاع أو سماع الشهود حتى أن خميس الذي لم يتجاوز التاسعة عشر عاما تولي الدفاع عن نفسه في المحكمة، رغم ذلك أصدرت تلك المحكمة أحكام بالسجن في حق بعض العمال المضربين وحكمين إعدام بحق محمد حسن البقري ومحمد مصطفي خميس لدورهم القيادي في الإضراب وبعد ذلك تم تصفية أو حل حركة حدتو الشيوعية والتي كانت معارضة للمحاكمات العسكرية وتعمل لحقوق العمال.

ثاني حلقات العنف القضائي كانت في عام 1954 بعد المحاولة الفاشلة لاغتيال جمال عبد الناصر واتهام جماعة الاخوان المسلمين بالضلوع في التخطيط لتلك المحاولة فتشكلت محكمة عسكرية اخري سميت بمحكمة الشعب بعضوية جمال سالم انور السادات وحسين الشافعي وأصدرت تلك المحكمة احكام اعدام بحق الكثير من اعضاء الجماعة منهم وجوه معروفة في مكتب الارشاد مثل القاضي عبد القادر عوده واحكام بالسجن المؤبد لآخرين ومنهم المرشد حسن الهضيبي واستمر العنف القضائي فتوالت المحاكمات العسكرية والمدنية ضد اعضاء وقيادات الاخوان حتى انتهت بإعدام سيد قطب وآخرين في 1966.

تأرجحت محاكمات خصوم النظام ومعارضيه السياسيين بين المحاكم العسكرية والمدنية بحسب الظروف والملابسات رغم معارضة نادي القضاة والكثير من رجال القضاء لتلك المحاكمات وخاصة العسكرية علي أساس أنها اعتداء جسيم علي مؤسسة العدالة في الدولة لكن استمرت محاولات النظام في السيطرة الكاملة علي المؤسسة القضائية المصرية رغم مقاومة القضاة فحاول النظام إجبار النادي علي الانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي وفشل ثم أطلق علي صبري نائب الرئيس حينها حركة "الإصلاح القضائي" تم فيها الإطاحة بعدد من القضاة من مجلس الدولة لكن دأب القضاة علي العصيان حتى أن مجلة القضاة الصادرة عن نادي القضاة اتهمت استبداد النظام بالتسبب في هزيمة 1967 فكانت المواجهة المباشرة بين النظام ومؤسسة القضاء في انتخابات النادي مارس 1969.

 

حيث كانت المنافسة بين قائمة النظام وقائمة القضاة المستقلين بقيادة ممتاز نصار الذي كان يدعو إلى استقلال المؤسسة القضائية وجاءت النتيجة بفوز القائمة المستقلة فاتهمت الصحف القضاة بأنهم اذناب العهد الملكي ورد النظام بسلسلة من القوانين محاولة منه للسيطرة علي القضاء، اعترض الكثير من القضاة فاجبروا علي الاستقالة أو عزلوا من مناصبهم في ما عرف بمذبحة القضاة عام 1969. 

 

امتد العنف القضائي من قبل الدولة إلى من يقوم بتأدية عمله فقط بشكل مهني وبدون انحياز كما حدث مع المستشار هشام جنينة
امتد العنف القضائي من قبل الدولة إلى من يقوم بتأدية عمله فقط بشكل مهني وبدون انحياز كما حدث مع المستشار هشام جنينة
 

وبذلك سيطرت وحتى الوقت الحالي الدولة أو النظام بمعني اصح علي المؤسسة القضائية بالكامل وتم تحويل المؤسسة إلى سلاح يستخدم في وجه المعارضة وخصوم النظام بغرض تحقيق اهداف سياسية اكثر منه تحقيق مبدأ العدالة، واتسع استخدام العنف القضائي من قبل النظام العسكري بعد ثورة يناير 2011 حيث رأينا المحاكمات العسكرية للمدنيين والبلاغات الواهية ضد المعارضين بتهم معلبة كالانتماء لجماعة محظورة محاولة هدم الدولة أو تشويه سمعة مصر ويتم التنكيل "قضائيا" بالمعارض علي أساس تلك البلاغات أو التهم مثلما حدث ويحدث مع سامي عنان وأحمد قنصوة وعبد المنعم أبو الفتوح وأحمد دومة وعلاء عبد الفتاح وغيرهم.

ثم امتد العنف القضائي من قبل الدولة إلى من يقوم بتأدية عمله فقط بشكل مهني وبدون انحياز كما حدث مع المستشار هشام جنينة بعد تقريره الأخير كرئيس للجهاز المركزي للمحاسبات عن حجم الفساد في مصر والمؤسسات المتورطة في ذلك الفساد. فضلا عن اعتقال المصور الصحفي محمود ابو زيد (شوكان) على خلفية تغطيته لأحداث فض اعتصام رابعة حيث قد يواجه عقوبة الإعدام وحديثا اعتقال الصحفي عادل صبري ليس إلا لأنه صحفي مهني يحترم مهنته وقرائه وذلك بتهمة الانضمام لجماعة الإخوان المحظورة رغم أنه وفدي. ويبدو الأفق السياسي مفتوح للمزيد من العنف القضائي والسياسي تحت حكم النظام العسكري لعبد الفتاح السيسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.