شعار قسم مدونات

دعْكَ من وهم الحمامةِ ولا تنتظر

مدونات - رجل يتفكر يتأمل

يُقال أنهم ذات مرة أجروا تجربة على حمامة كان قانونها أن تُترك الحمامة جائعة وعلى حين غفلةٍ منها يأتونها بالطعام، ولا بُدَّ في كل مرة أن تطول مدة المنع عن سابقتها قليلًا، ومن وراء حجاب يُتابع سلوكها في كل مرة يتأخر عنها الطعام، بعد عِدة مرات لاحظوا أن مع تأخُر الطعام واتساع مُدة الجوع كانت الحمامة تُكرر الكثير من الحركات التي فعلتها في المرة السابقة قبل أن يأتيها طعامها بَغتة، كانت تفعلها كما هي دون كلل.. وبدورهم عززوا وهمها إلى أن ترّسخ الاعتقاد لديها بأن حركاتها ذات جدوى.. وفي المرة الأخيرة تأخر الطعام كثيرًا.. استجلبت جميع الحِيل حتى نفُدت فخارت قواها، وحين استسلمت للأمر أعطوها الطعام لآخر مرة وأطلقوا سراح جسدها بينما يُقيِّد عقلها سؤالٌ واحد: ماذا فعلتُ لأستحق كل هذا؟!

حقيقةً لا أدري ماذا فعلت. ربما لم تفعل الحمامة شيئًا لتستحق به أن تكون حقل تجارب وتُكوى بنيران الانتظار، ومن المؤكد أن حركاتُها لم تكُن ذات أثر لتجلب الطعام إليها.. وأن كل ما بذلته من احتراقٍ وحركاتٍ مُستميتة لم تكُن في عُرفِهم سوى: وهمٍ من حمامةٍ جائعة، بينما في عرفِها فوهمُ الحمامة أمرٌ مُنهِك.. ربما لأنه سلاحها الوحيد لاستكمال الحياة، أو لأن نيران الانتظار تدفعها لمثل ذلك فتزيد الوهم اتقادًا لتُحال محاولاتُها للبقاء على قيد الحياة مسًا من جنون. نيرانٌ لا تنطفأ وأسئلة تتوالى مفادُها الوحيد.. هل هكذا تكون النهاية؟ 

تُشبهنا الحمامةُ كثيرًا حين ننتظر أليس كذلك؟ كم مرة قلنا مثل ما قالت؟ كم مرة وقفنا على أعتاب الانتظار ونحن نحترق ونقول هل هكذا تكون النهاية؟ هل تظنني سمعتُها؟ لا، بالتأكيد لم أسمعها، لكنِّي سمعتُ نفسي وسمعتُك أنت كثيرًا حين وقفنا في صالات الانتظار نحترق سويًا كما كانت تحترق الحمامة في قفصها. فدومًا ما أرى وهمُها فينا كما فيها، يسكُننا ونألفُه، يقتله المللُ تارةً ويُغذيه الأملُ تارةً أخرى فلا نَمِّلُ ولا نصِل.. فطريٌ فينا أن ننتظر شيئًا يُعيد للروح ما فُقد منها، وبذلك تكون حياتُنا سِجالٌ بيننا وبين آمالِنا في ساحات الانتظار فلا هي تدنو ولا نحنُ ننصرِف.

لا تنتظر.. وخُذ من الحياة ما أعطته؛ فالانتظار يؤدي إلى ما هو أكثر من إبطال المفاجآت، إنه يخدر الانفعالات

حياتُنا مراحلٌ كما عهِدناها نمرُ بالواحدة تِلو الأخرى، ونطلب المدد بعد الآخر.. ننظر للمستقبل على أنه محطة قطارٍ كبيرة مليئة بالمقاعد التي لا تنتهي، نركب في محطة لنصل لما بعدها.. نركبه صِغارًا فنتطلع لأنفسنا حين نكبر، نتخطف في الطريق ما نقوى عليه، نطلب الكثير فربما يأتينا كله وربما يُمنع عنّا بعضه فنتعلقُ به، نرقُبهُ من طرفٍ خفِيِّ.. ربما لا نحتاجه بقدر حاجتنا للمُتاح في أيدينا.. لكننا اعتدنا ذلك وألِفناه.. حتى أصبح تأخُر المددِ منعًا نستجلبه بحركاتٍ اعتدناها في المدد السابق، نستميت عليه فتُحال حركاتنا إلى مسٍ من جنون.. تمامًا كما فعلت الحمامة سابقًأ.

يقولون دومًا لا تنتظر، اترك الأشياء تأتي كما هي، افعل ما عليك وكُف عنك عناء الانتظار. لا تصِل باكِرًا قبل موعد قطارك فتُحال ساعات الابكار إلى مُتسعٍ من القلق وربما المزيدُ من الحمق.. نعم حكمتهم شديدة الاتزان لكنّها واهمة. ربما رددتُها يوما وبداخلي طواحين الانتظار تكاد تفتِكُ بي، كنت أحاول أن أتناسي آمالي عساها تأتي بغيرِ تسكعٍ في الطُرقاتِ، لكنني لم أنسى.. فالانتظار آفة الظمأي لمددٍ يٰراوغهم ربما يأتيهم بَغتة وربما يحيدُ فلا يصل.

غيرَ أنِّ واجبي أن أخبِرك ألا تنتظر.. وأن تأخُذ من الحياة ما أعطته؛ "فالانتظار يؤدي إلى ما هو أكثر من إبطال المفاجآت، إنه يخدر الانفعالات، فكل ما نتمناه أو نخشاه نكون قد عشناه خلال تمنيتنا له أو خشيتنا منه". كما قال ساراموغا وأيضًا دَعْكَ من وهم الحمامةِ وتسلَ عنهُ بشيء آخر فإنه لا يُجدي بقدر ما يُنهِك.. أقسِم لك أنِّي على حق.. وأقُسِم لك أيضًا أن ما أنصحك به الآن كان آخر وهم اقترفته قبل المددِ السابق، فلا تنتظر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.