شعار قسم مدونات

قصصُ حبنا المهجورة..

blogs الحب

لفت نظري مؤخراً فيديو علي وسائل التواصل الاجتماعي لعجوزٍ غربيّْ يقف بصالة الانتظار في أحد المطارات ينتظر زوجته العجوزة هي الأخرى القادمة من سفرها ويحمل باقة وردٍ كشيء يعبِّر عن حرارة الحب في قلبه وكدليلٍ أن العمر لم ينل من حبهما شيئاً، غير اللهفة والشوق اللذين كانا واضحين جداً علي وجهه حيث يستطيع أيُّ أحدٍ أن يميزهما بسهولة.

الموقف أفصح بوضوحٍ منقطع النظير عن الذات الإنسانية التي يعبر عن جوهرها الحب بصورة أو بأخري. فما الإنسان أو الحياة دون حب؟ فحين يتمكن الحب من جذور القلب وأواصر الروح يكون البذل والتضحية والإخلاص والوفاء وهذا ما تلمّْحته في الموقف السابق. فالحب يزداد عمقاً وتمكناً من صاحبه بمرور الوقت -هذا إن كان حباً من الأساس حيث أن الكثير لا يستطيع التميز بين الحب وما عداه من مشاعر- خاصةً حينما تمر الحياة بكثير من الألم والتحديات والفرح والانتصارات.

أنا لا أجد حرجاً في هذه المواقف لأنها تعبر بوضوحٍ عن الذات الإنسانية التي تحدثت عنها سابقاً، لكن ما يحزنني كثيراً هو هُيَامِ كثيراً من الشباب بمثل هذه النماذج الغربية درجة أن الأمر يتجاوز حدوده الطبيعية والغير طبيعية أيضاً في أحيانٍ كثيرة، فليس الحب وقصصه رغم أهميتهما بالأمر الذي يستحق أن نبذل فيه كل طاقتنا ووقتنا في فترةٍ من المفترض أن يُرْسِي الشاب فيها أساس كل شيء ستقوم عليه حياته لاحقاً.

وما أحزنني أكثر أن كثيراً منا يهتم بنماذج الحب الغربي علي مستوي الدراما والسينما والأدب وربما القصص التي لا يكون لها أي أساس من الصحة! علي حد سواء بينما علي الجانب الأخر نجد انعداماً تاماً لأي قصةٍ من تراثنا الإسلامي العربي كأنَّ لا قلوب لدينا أو كأننا لسنا ببشر!

معظم من يهيمون بنماذج الغرب ويحاولون جاهدين صب حبهم بقوالبهم، عادةً ما يحتوي حبهم علي مخالفاتٍ وتجاوزاتٍ كثيرة. فيحمل ذلك الحب أوزاراً تهوي به صريعاً متهالكاً بالنهاية

بدأت أتساءل عن هذا الأمر الذي أظنه قد أصبح ظاهرةً نلمسها جميعا. هل ذلك لأننا متخلفون حضارياً ومنهزمون ثقافياً وبالتالي نعجب بأيِّ شيء يقدمونه وبالتالي نقلدهم أيًّ ما كان الامر! وهذا ما سيجعلنا ننبهر بشيء يعبر عن طبيعتنا ويحكي قصة البشر باختصار! أم لأننا فقدنا هويتنا التي ذابت في تقدمهم فصاروا هم قدوتنا، أم لأن الحب والجمال يتكاملان في قصصهم فتنفذ المشاعر للروح مباشرة، أم لأن كثيراً من رجال الشرق لا يعرفون ثقافة الورد أو الهدايا المفاجئة أو حتى الكلمات اللطيفة! وكذلك المرأة الشرقية تفتقد أشياءً كثيرة مقارنة بنظيرتها الغربية..

شعرت أن أيَّ إجابةٍ لهذه التساؤلات ستكون سطحية جدا، كان هناك شيء داخليّْ يخبرني أن الأمر أعمق وأعقد من ذلك، وهناك سرٌ لم أصل إليه بعد لذا بدأت أفكر في الأمر وأبحث علَّني أجد إجابة مقنعة لتساؤلاتي. أين أبحث ومن أين أبدء؟ ذهبت فوراً أبحث عن قصةٍ في تراثنا الإسلامي يتجسد فيها الحب والوفاء والمشاعر التي تلحقهما. فلم أجد أعظم من النبي ولا أعظم من تجربته لذا بحثت أولاً في سيرته عما أريد فوجدت ما أدهشني وأعتقد أنه سيدهش كل أحدٍ يفكر في الأمر بوجدانٍ ومنطق. لأخبرك إياه أذن.

خرج سهمها فسارت معه، التمست عقدها ففاتها الجيش، لتقفل مع رجلٍ تأخر عن الجيش من المسلمين يخشى على نفسه ما يخشى المسلم من غضب ربه ونبيه والمسلمين، وهي كانت أسمي نبتاً وأعظم منزلةً وأشد خلقاً وأنفة من أن تعرض نفسها لريبةٍ أمام جيش كامل لكن لمطلق الأسف لم يفقه المنافقون ذلك! لينتشر الخبر فوراً ويدوي بإرجاء المدينة "لا هي نجت منه ولا هو نجا منها" لنقف مع النبي في موقفٍ نصل منه لأغوار النفس ونبل الخلق في موقفٍ لا تسلس فيه الطباع ولا ينتظر في المودة وطول الأناة، بل ينتظر أن تثور النفس البشرية وتستجيش مكامنها من حبٍ وحميةٍ وثأرٍ لكنه لم يقبل الأمر دون بينة وكذلك لم يرفضه دون بينة.

 

إضافة لهذا ظل يعود زوجته المريضة ولم يجفوها ولا حتي فاتحها في الأمر حتي تبرء من مرضها، ويأذن لها أن تمرض في بيت أهلها كل هذا وهو كاظمٌ في نفسه ما هو كاظم، مسيطرٌ علي فؤاده حافظٌ ما كان بينهما من حبٍ وعشرة، منتظرٌ أن يظهر أمرُ الله فهو يخاف أن يسامحها عن ضعفٍ أو محبةٍ لا عن بينةٍ واستيثاقٍ كما أنه يريد أن تبرء أمام الجميع أو يكون الأمر خلاف ذلك تماما! فكم استقر بقلب النبي هذه الأيام من مشاعرٍ تكفي لموت المرء كمدا!

وهذه التي نجت من إفك تلك الحادثة المروعة بكل ما تحمل الكلمة من معني، والتي أخبر أصحابه أنها أحب الناس إليه كانت تغار من امرأة أخري لا يتوقف عن ذكرها دوما؛ فحنينٌ عجيبٌ كان لا ينقطع من قلبه أبداً نحوها، ولم تعرف الدنيا غير الحزن والسواد عام توفيت فهي كانت بالنسبة له أشياء كثيرة جداً غير دور الزوجة التي تملكه أي امرأة لزوجها لذا أعتقد أن حب النبي لها كان منطقياً جداً لأنني لو كنت مكانه لأحببتها نفس الحب واحتفظت لها بنفس الوفاء، بل إنني أظن أن أي شخصٍ لديه شيء من إنسانية لن تختلف مشاعره عن النبي.

لنتخيل الأن في شيء من العجلة موقفا واحدا لنصل من خلاله لكم الصلة بين النبي وبينها، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم خارجاً من غار حراء لتوه بعد أن غطَّه جبريل إليه وجذبه ثم قال له إقرأ ثم مضي، خرج وهو لا يدري ما كنه الأمر تحديداً ولا من هذا الذي أتاه، خرج خائفاً مفزوعاً مروعاً فأتاها وأخبرها بأمره ثم قال بصوت متقطعٍ "لقد خشيت علي نفسي" بعد أن دثروه، لتمد يدها الحانية لجذور قلبه وأعماق روحه قائلة "كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك وإنك…" أتخيل حالة النبي وهلعه وفزعه وكلماته الملعثمة وعلي الجانب الأخر خديجة بنت خويلد ثباتها واطمئنانها وكلماتها الواثقة. أي كلماتٍ تعبر عن موقفٍ كهذا! لا أجد ما أعبر تفسيراً لتعلق النبي بها.

قد يتورط أحدنا في الحب دون إرادةٍ منه حتي يشعر المرء منا أنه أصبح عاجزاً لأن الأمر خارج سيطرته وفوق إرادته
قد يتورط أحدنا في الحب دون إرادةٍ منه حتي يشعر المرء منا أنه أصبح عاجزاً لأن الأمر خارج سيطرته وفوق إرادته
 

وهنا أيضا نَخْلُص لنفس النتيجة السابقة -الحب والوفاء- فلماذا إذن تظل هذه القصص وغيرها أسيرة كتب التراث طيةُ الكتمان أبداً، لماذا حين نسمعها أو نقرئها لا نستشعر نفس المشاعر التي تعصر قلوب الكثير حين مشاهدة مشهد رومانسي في فيلم أجنبي رغم أم الرومانسية عندهم تختصر في أمور محددة؟ لماذا نهملها رغم أنني أعتقد أنها مهمة وضرورية جدا لكل شابٍ حيث أنها تزكي نفسه بمكارم الأخلاق وجوهر المروءة وهنا وصلت أخيراً للسر الذي كنت عنه أبحث.

بعد تأملٍ طويل وجدت أن السبب فيما بدا لي: أن معظم من يهيمون بنماذج الغرب ويحاولون جاهدين صب حبهم في قوالبهم، عادةً ما يحتوي حبهم علي مخالفاتٍ وتجاوزاتٍ كثيرة. نستطيع أن نجملها في الاستهتار بأدب الاختلاط فيحمل ذلك الحب أوزاراً تهوي به صريعاً متهالكاً في النهاية، وكم سمعنا عن زيجاتٍ فشلت بعد أعوامٍ عديدة من الحب كأنه لا حب أو كأن الحب أصبح لعنة يتعذبان بها!

وكيف إذن لإثنين تجاوزا حدود الأدب وحمي الحرمات أن يتمثل الأول بأدب محمد وعفته ودماثة خلقه والثانية بحياء خديجة أو عائشة مثلا. إن هذا مما لا يقبله منطقٌ علي الإطلاق لأن ذلك سيعرضهما لوخز الضمير ومواجهة النفس، والدخول معها في صراعٍ طويل علي الدوام مما سيفسد ذلك الحب لا محالة وسيقضي عيله بالموت أو بالعيش في احتضار دائم.

أعلم أنه اختيار قاسٍ جداً جداً لأنه قد يتورط أحدنا في الحب دون إرادةٍ منه حتي يشعر المرء منا أنه أصبح عاجزاً لأن الأمر خارج سيطرته وفوق إرادته، وذلك أمرٌ طبيعي جداً لا تأباه فطرة ولا شريعة فضلا عن المنطق الإنسانيّ فالقلب قد يتعلق بشخصٍ واحدٍ فقط بشدة حتي تتصل روح كلٍ منهما بالأخرى فلا يستطيع أحدهما العيش دون الأخر ويغدو البون هلاكاً لكليهما. هذا رغم أننا قد لا نجد أسباباً ظاهرة لذلك حتي أننا نعجز عن وصف ذلك الشعور ليس لإن المشاعر لا توصف بل لأنه شعورٌ استثنائي بكل ما تحمل الكلمة من معني.

وهذا الحب لا تثريب علي أصحابه ولا لوم. لإنه من المفترض أن يدخل ذلك الحب قلباً استقر فيه حبُ الله منذ زمن -ولا تعارض أو تناقض رين الحبين- فيهذبه حتي يصفٔ ويخل من كل شائبة قد تفسده حتي يكون من الله فرجا وخلاصا أو يكون القدر الذي لن يرده راّد ولن يدفعه أحد حتي ولو كان ما كان! حبٌ كهذا لن تنتج عنه أيَّ مخالفاتٍ البتة ولا تجاوزات، حبٌ كهذا لن يغضب الله مطلقا، حبٌ كهذا سيستطيع صاحبيه أن يذكرا ويقتديا ويتعايشا مع حبِ محمدٍ وعائشة أو حب عثمان ورقية دون حرجٍ أو خجل..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.