شعار قسم مدونات

التموجات المعيارية في إدارة ترمب للشؤون العالمية

مدونات - ترمب

إن من الخطأ الاعتقاد أن تاريخ الهيمنة الأمريكية العالمية يبدأ من هزيمة الشيوعية في الحرب الباردة، ومن السخرية حقا أن نجد من يؤمن بأن الولايات المتحدة كانت تنتظر خبر سقوط الاتحاد السوفياتي لتعلن عن نظامها العالمي الجديد بقيادة فردية، إن ذلك لا يعدو عن كونه افتراضا لا يستقيم مع المعطيات الواقعية.

 

لقد مثّلت الضربة النووية لليابان إبّان الحرب العالمية الثانية إيذاناً صارخاً على نزعة الولايات المتحدة الأمريكية للانصهار في قواعد اللعبة العالمية، ولم تكن الغاية المنشودة من استعمال سلاح نووي وفق هذه الصرامة وعلى النحو الذي شهده العالم في ناجازاكي وهيروشيما مختزلة في تركيع اليابان مثلا، فلو استمرت الحرب دون سلاح نووي لكانت اليابان قد استسلمت بالفعل، ولكن المحصلات المنطقية لهذه الواقعة المروعة كانت تتجاوز مفهوم الهدف الواحد. إن تلك الردة المتزمتة في نسق السياسة العالمية أعقبتها حالة من الارتباك في الشؤون الاستراتيجية برمتها، وقد أفضت إلى حدوث اختلالات بنيوية في تراتبية مكانة القوى في مسرح السياسة العالمية، وكل ذلك كان يُنذر بنشوء فراغ قوة ضمن تفاعلات السيطرة في قمة النظام الدولي.

 
في نظرية العلاقات الدولية، يؤكد منظرو المدرسة الواقعية أن الدولة لا تجرؤ على الدخول في مواجهة من العيار الثقيل إلا إذا كان هدفها الأسمى هو السيطرة على التفاعلات والإمساك بزمام المبادرة في الفعل والبناء، ويشير ذلك إلى تأسيس عتبة جديدة من القوة في نظام محدث. وعلينا أن نتذكر ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في خضم الحرب في سياق تدمير البنية التحتية لقوات المحور عبر إلحاق الهزائم المريرة بألمانيا بدءا من عملية النورماندي عام 1944 والتي اعتبرت أكبر عملية إنزال عسكري في القرن العشرين، وكان لها بالغ الأثر في قهقرة الجبهات المعادية وترجيح كفة الحلفاء.

 

مفاهيم الردع والتطويق الاستراتيجي التي أُنيطت بها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت في صلب العقيدة الاستراتيجية الأمريكية والتي نشأت للحفاظ على النظام الدولي بأركانه الثلاثة

وإذا نظرنا إلى هذه المسألة من زاوية استراتيجية، نرى أن الولايات المتحدة كانت تستبطن في حركتها العسكرية المهيبة في محركات تلك الحرب فرض وصايتها على أوروبا في ضوء تراجع مركز القوى الأوروبية المتمثل في بريطانيا وفرنسا والذي سيتبلور فيما بعد بخطة مارشال لإعمار أوروبا تمهيدا للهيمنة عليها. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية أنجزت الولايات المتحدة تحولا دراماتيكيا ليس فقط على مستوى الموقف الصراعي وإنما على مستوى السياسة العالمية، ويكفي إلقاء نظرة سريعة على السلوك الأمريكي فور انهيار النازية ومن ثم استسلام اليابان، كي نرى بأم العين، كيف راحت الولايات المتحدة الأمريكية تصوغ قواعد جديدة لتمرير سياسة الهيمنة، ويتبادر إلى الذهن أيضا ما نُمي إلى مفهوم العولمة وفق الصيغة الأمريكية.

 
إن العولمة بمفهومها الأوسع نطاقا جاء في سياق تكامل العالم الغربي مع المظلة الأمريكية وتحت الرعاية الأمريكية وبتنظير أمريكي أيضا، وقد وفّر ذلك في العموم منهجيةً متسقةً في جوهرها ومضمونها لتكتمل معها متلازمة الهيمنة والاحتواء، ومن جملة ما قامت به الولايات المتحدة ضمن ذلك السياق، وبعد شهر واحد من إعلان انتصارها على اليابان، أنشأت هيئة الأمم المتحدة لتحل محل عصبة الأمم، وقد بنى الأمريكيون عليها رهانات شاقة ضمن مبدأ الحاكمية العالمية للمجتمع الدولي، ولفرض الولاية المستحكمة على القرار الأوروبي والتأثير في تفاعلات أوروبا، ومن أجل ذلك صاغ الأمريكيون برنامج للتنمية الاقتصادية والسياسية عبر خطة "مارشال" لإنعاش أوروبا وإعادة إعمارها، بما يخدم هدف السيطرة الاستراتيجية الأمريكية في أوروبا واستغلالها كساحة تأثير حيوية لتقويض نفوذ السوفيات.

 

وإذا أضفنا ذلك كله إلى الواقع الذي كان قائما آنذاك ومع اندلاع مواجهة كونية عارمة امتدت في عموم السياسة الدولية وأرخت بظلالها على نسق العلاقات الدولية بحيث انتقلت معايير القوة النسبية إلى أيدي الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وقد ظهر اتجاه أمريكي يدعم سياسة دحر العدو بكل وسيلة ممكنة، ولقد وصل الفكر الإستراتيجي بصانعي السياسات الأمريكية إلى حتمية بناء استراتيجية كبرى تتحكم في النسق العقدي الأمريكي تجاه الخيارات العظمى للدولة الأمريكية والتي سيكون لها بالغ الأثر في تشكيل مستقبل البيئة الدولية في حال انهزم العدو السوفياتي.

  undefined

  

والمحصلة المنطقية وفق هذا المنظور تشير أن مفاهيم الردع والتطويق الاستراتيجي التي أُنيطت بها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت في صلب العقيدة الاستراتيجية الأمريكية والتي نشأت للحفاظ على النظام الدولي بأركانه الثلاثة: السلطة والقوة والمسؤولية. ومن المقولات الأمريكية الشائعة في ذلك الوقت أنه حتى في ظل افتراض غياب المعسكر المعادي، فإن تلك العقيدة الجديدة تفرض على الولايات المتحدة أن تعمل على تنظيم العوامل الحاكمة لضبط النظام في السياسة العالمية، على اعتبار أن التهديد بالفوضى الدائمة سيلحق بالغ الضرر بالمكتسبات التاريخية التي تحققت في عالم ما بعد الحرب.

إن قضية صياغة استراتيجية عالمية للولايات المتحدة الأمريكية يظل يشكّل تحديًا كبيرًا أمام نخبة السياسة وصنع القرار في واشنطن، والرأي الأكثر إضاءةً يأتي من الهواجس المنبعثة من صعود الآخرين الأقوياء أو عودة أولئك الغائبين إلى مكانة شبه متكافئة مع الولايات المتحدة، ولا شك أن حدوث مثل هذا السيناريو يجعل من الحاكمية العالمية مسألة قيد التشكيك، وستبقى كذلك، ما لم تتحرك الولايات المتحدة لإجراء قوالب خاصة لمعايير القوة النسبية بالشكل الذي يحافظ على مكانتها العالمية الفائقة والمتفوقة في مجتمع تموج فيه القوى وتسوده المنافسة المحتدمة. 

ولكن الذي حدث كان قريبٌ من العكس، لأن وتيرة التغيير السريعة في عالم ما بعد الحرب الباردة أنتجت نصيبها العادل من الارتباك في الشؤون الاستراتيجية، لقد أضحت المتغيرات الليبرالية التي تدعم الترويج للديمقراطية الرغيدة وحقوق الإنسان ثم الحرب على الإرهاب، مصادر قلق جاد لدى القوى الصاعدة الأخرى، بما في ذلك روسيا والصين كأكبر قوتين في النظام بعد الولايات المتحدة. ولا تزال هذه المسألة مثار نقاش واسع النطاق في الأروقة السياسية والاستراتيجية الأمريكية. إن الغرب الأمريكي لم يراع إلى حد بعيد الالتزامات الجيوسياسية والاستراتيجية تجاه روسيا بوجه خاص، في حين كانت مسألة التوافق أو التكامل بعيدة كل البعد عن المسارات العملية، فالروس لم يكونوا مؤمنين بفكرة الهزيمة الأبدية ولم تنطوي فكرة نهاية التاريخ الفوكويامية على قيادة الكرملين بعد تولي بوتين سدة الحكم هناك.

  undefined

 

إن الطريقة التي انتهجتها موسكو في حرب أوسيتيا الجنوبية وشرق أوكرانيا ومن ثم ضم شبه جزيرة القرم، تدلل على خروج روسيا من الشرنقة الجيوبوليتيكية التي نشأت بعد الحرب الباردة. وفي الوقت الذي انطلقت فيه حرب العراق للإطاحة بنظام صدام حسين؛ لم تكن موسكو وقتداك في موقف ضعيف إزاء اتخاذ دور مضاد للتحركات العسكرية الأمريكية، ولكن ذلك كان يعطي موسكو تنبيها استراتيجيا دقيقا جدا على صعيد المكانة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية، ويُفهم هذا في العبارة التي أطلقها الرئيس بوتين "أن حرب العراق كانت غلطة سياسية بالغة"، نتيجة الضرر الذي لحق بالإطار الدبلوماسي الذي يضبط الأمن والاستقرار في السياسة الدولية.

 
واليوم، قد يُثار لنا تساؤلا حول الآلية التي تُحدّد فيها إدارة الرئيس ترمب للاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة، في ظل تنامي الديناميكيات في السياسة الدولية، فهناك موقف حاد وغير مستقر في صرح العلاقات مع روسيا والصين، ولعل أكثر المسائل حساسية وترتبط بهاتين الدولتين هي مسألة كوريا الشمالية وترويض النظام فيها للتخلي عن برنامجه النووي المثير للجدل، وكذلك الحال بالنسبة لإيران التي تدور المعادلة الأمنية الإقليمية في الشرق الأوسط حول دورها العابر للحدود، إذا أخذنا في حساباتنا وجود إسرائيل والسعودية التي تقود الخليج لمواجهة تمدد نفوذ إيران، كما أن مسألة التسوية السياسية لصراع الشرق الأوسط بين إسرائيل وفلسطين لا تخلو من الإلحاح لدى المسؤولين في البيت الأبيض، وقد جاء اعلان ترمب القدس عاصمة لإسرائيل ضمن سياق تقييمي صرف، وفي رأيي أن السياسة الإقليمية للشرق الأوسط قد وُضعت رهن الاختبار الإجرائي بشأن القدس وهي تمثل العُقدة المزمنة في قضية التسوية، ولست أظن أن ثمة صياغة حقيقية في جعبة إدارة ترمب حول تسوية تلك المسألة، على الأقل ما لم تتمكن الولايات المتحدة من ترتيب القواعد السياسية الدولية وتهيئتها لإحراز صفقة دائمة وقابلة للبقاء.

 

إن اشتداد التأزم في الشؤون الاستراتيجية العالمية يدين في أكثر حالاته إلى التجاوزات التي تصدرت لها الولايات المتحدة على مدار السنوات التي تلت الحرب الباردة، وما يبعث على الأسى أكثر أن رئيسا غير ملتزم بالحذر والدقة بات يمسك بزمام القرار في البيت الأبيض، وعلينا ألا نقبل بفكرة أن أمريكا أولا استراتيجية يمكن عولمتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.