شعار قسم مدونات

حديث في العشق..

blogs الحب

في سورة يوسف الموصوفةِ بأحسن الْقَصَص القرآني والمليئة بأجلِ المعاني والعظات "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ" كان الحب البداية وعليه صارت سيرةُ هذه الحكاية العجيبة بأحداثها ومنطقها، حبٌ ليس ككل الحب ومنبته ليس ككل المنابت، إنها قلوب الأنبياءِ الخصبةِ بالصدقِ واليقينِ والإخلاص.

وعلى غير اشتهاء هذا الحب السامي فقد تجشم عناء البُعدِ والفِراق، وما بين ضِفتيه كانت سماءٌ تُمطرُ شوقاً وحنيناً فصورةُ المعشوقِ حاضرةٌ من وجهٍ وغائبةٌ من وجهٍ آخر فهو نقصٌ لا يليقُ بكمال هذا العشق الحقيقي فيعقوبُ عاشقٌ ومعشوقه هو من ذاته، إنه الولد يُوسف، حاملُ الرسالةِ المرتقب، الابن اليتيمُ الذي غمرته حنانةُ يعقوب وحرصه، نفوس كان أجَلُ أحوالها أن تكونَ عاشقةً مشتاقةً و حياتها تخطو على جمر ِلهفِ اللقاء وإيمانها راسخ بعدالةِ السماء بعد الابتلاء.

منطق العشق

يبدو منطقُ العشق مقاوماً لأشكال العقلنة ولا يخضعُ إلا قليلاً لقوانينها فيبدو عصيّاً على فهم دوافعه في بعض الأحيان بل إن عواطف العاشق لا تُصغي إلى ما تُلام عليه وإن علاقتها بالمحيط المتعقّل تبدو علاقةَ لا شعور فالشعور ُوأدواتُ الحسِ موجهٌ نحو إدراكِ المعشوقِ فحسب، ولهذا نعت أخوةُ يُوسف أباهم بالضَلال لما شعروا بأنه من غير المنطق أن يفرق بينهم وبين يُوسف في الحُب الأبوي "إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" و لما اشتدت عليه نواغر الفراق وعذاب الفقد "قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ" وكذا قالتْ نِسوةُ المدينةِ في حقِ امرأة العزيز المُحِبَةِ ليُوسف الشاب "قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ".

بما أن الأجساد ترتبط بعللِ الأرواحِ فالأجسادُ أيضا تنضمُ إلى ائتلاف الانجذاب نحو هالة المعشوق، وما دام أن الأجساد قريبةٌ فثمّةَ سكينةٌ واطمئنان أساسه انتفاء عِلة الشوقِ واللهفِ وطغيانُ الألفةِ

ورغم انتفاء أي وجهِ مقارنةٍ بين كلا نموذجي الحُب، إلا أن الصورة النمطيّة التي التقطها المشاهد -إخوةُ يُوسف ونِسوة المدينة- هو عدم الاتزان المنطقي لكلا الحبين، فيعقوب النبي مازال مشتعلاً بحُبه ليُوسف رغم عهد الفِراق القديم، ولهفته للقاءِ متجددةٌ لا ينحت من صلابتها الزمن، ولا يكفُ عن اجترار الحزن والألمِ والماضي، وماء مدامعه غضٌ لا ينضب، وحُب امرأة العزيز ليُوسف الشاب طاشت فيه نار الفعل الآثم تعلو وتهِب رغم كونها من عَلية وأشراف قومها و زوجة المتصرف بأمر مصر ويُوسف بنظرهم مجردُ خادمٍ في قصرها لا يتسق مع مرتبتها ورِفعتها، لكن الإدراك الواعي ليس هو السبيلُ الوحيدُ الذي يتشكّلُ منه وجدانُ الإنسان ورغبته، ولذا يبدو أن العِشْق ينظرُ مُتبصراً فيما يعتبره النَّاسُ سَففاً وقُبحاً، فيبدو له تثقلاً وحسناً وما كان ضلالاً وتيهً فهو يبدو في شِرعة العشاق جادةً ورشاداً، ولأحمد شوقي بيتُ شعرٍ مشهورٍ يقول فيه:

يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ .. لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُم

ما يُميز عشق يعقوب ليُوسف

ما مَنح عشقَ يعقوب ليُوسف الوسائل ليتحقق في الخُلود هو جانبه العقائدي الديني، فكما هو معروفٌ فإن يوسف وريث النبوة -وهو ما أثبته تأويل رؤيته- وبما أن هذا اصطفاء إلهي ليوسف ابن يعقوب فهو اصطفاء لآل يعقوب أنفسهم، فيعقوبُ على يقين بأن يوسف إنما هو نَسمةٌ من نسمات الله التي تُطيبُ الروحَ وتُدثر القلب َووعدُ خيرٍ وحسنُ طالعٍ بالرضا والقبولِ الإلهي له ولآل بيته، فحبه ليُوسف إنما يستمدُ ذاته ودلالته من عشقه لله وهكذا عشقٌ خالصٌ يليق به أن يُنسب إلى صفة الكمال.

أثر العشق على الأجساد

وبما أن الأجساد ترتبط بعللِ الأرواحِ فالأجسادُ أيضا تنضمُ إلى ائتلاف الانجذاب نحو هالة المعشوق، وما دام أن الأجساد قريبةٌ فثمّةَ سكينةٌ واطمئنان أساسه انتفاء عِلة الشوقِ واللهفِ وطغيانُ الألفةِ والأنُس، ولإن نزل الفراقُ وتباعدَ وجيبُ القلوبِ العاشقة لأصبحت العقولُ مشغولةً والأرواحُ هائمةً والنفوسُ مُستنفِرة لكأن ضرورة من ضروراتِ الحياةِ انتفت، فيعقوب لم يُطق أن يبتعد عنه يُوسف نُذر يسيرٌ من الزمن -عندما طلب إخوته من أبيهم اصطحابه في الرحلة- "قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ"، فكيف وقد غاب السنوات الطِوال ألِف فيها الحزنُ ساحته واستوطن الوهنُ جسده وبصره وتربعت الوحدة في أوعيته. وختاماً، كان منتهى جهاد العشاق المشتاقين في سبيل الله تخاصرَ الأرواح بقدرة الله وحكمته، ولقاءٌ ينيرُ ما أطفأه الفراق، وإيواءٌ يجلو جفاء الأيام. "فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.