شعار قسم مدونات

تَراءى من سَناها لي مُحيَّا

blogs دعاء

"والله لو عَلِم المُلوك وأبناء المُلوك ما نحنُ فيه من النّعيم؛ لجالدونا عليه ولو بالسّيوف"

كأنّ حُروفها قِطعُ الجُمانِ، بمنزلةِ الرّبيع من الزّمان، تلكُم الكلمات التي تهادَت من مَنطِق السَّلف الصّالح كما يتهادى الحمامِ على رهيفِ الأغصان، عجيبٌ هو أمرُهم، من صالوا وجالوا في مَصافّ ويفاعِ النّفس المُطمئنّة، جَدُّوا السُّرى، وشدُّوا العُرى، فكانَوا كالرُّمحِ السّديد إذا انبرى، عَرَجوا بالرّوح السّنيّة فوقَ الشّوائب، وأخرجوا النّفسَ المُضيّة من جُبِّ الغياهِب، تعرّضوا لعطفِ حضرتِه الجميل، ورَدّدوا بينَ السّهولِ وقتَ الأصيل: أَليسَ عطاؤُكمُ دومًا جَزيل؟

هيّا بنا للعالَم الأَسنى.. إلى هِضابٍ أعشَبَت نُفوسًا زكيّة، وأرواحًا عليّة، شُمَّ الأَنوفِ ذوي الخِصال الوفيّة، ليّنو الخاطِر، جميلو المآثِر، من ساسوا الدُّنا، وجابوا عَنان السّما، وتربّعوا على هامَ الرّبى، خِصالُهم ما خِصالُهم؟ أحلى من الوردِ في هالاتِه، والفُلِّ في غاراتِه، والقمرِ في داراتِه، هُم أهلُ الله المجيد وخاصّته.

إذا وَعَت الأُذُن تغاريدَ نايِ القُدرة، ثمّ أصغَت جيّدًا إلى ترانيم الجَمال والأُنسِ بالله تعالى في كُلّ حالٍ وبال، غدَت بها الأعطافُ قد ثَمِلَت، والقُلوب قد وَجِلت؛ أمّا هذا الوَجلُ فعن سائرِ ما عهدتَه يختلفُ، سحرٌ حلالٌ مُجتبى، ولم أرَ من قبله سحرًا حلالا..

إذا زاحمتَ تُخوم الملائكة، وجاهدتَ في آفاق النّفُوس الُعليّة، باتَ لا يُقلِقكَ إلّا الشّوقُ والحنين، وأنتَ من أنينٍ في أنين، شوقٌ وحنينٌ لله المجيد؟ هذا مِمّا لا جَدَل فيه

كُلّما نسنسَ الصَّبا، أو لاحَ برقٌ في الأباطِح أو خبَا، أو ردَّدَ ذو كرمٍ لضيفٍ مرحبا؛ إذْ بربِّنا جلّ وعلا يُظهرَ لنا جمالاً قد خفى، جَمالًا قلّ راؤوه، ونَدُر ذائِقوه، لأنّ ريّاهُ تفوقُ كُلّ ريّا، إنّها ريّا الجَمال من لدُن ربِّ العالمين، من أوجِ الحَضْرة الشّريفة ومشارِفِها، هي السّلاح ضدّ الشّوائِب والنَّزوات، والمُلهياتِ والشّهوات، وتحقيقٌ لأمرِهِ جلّ وعلا أنْ قوموا لله قانتين وأقيموا الصّلوات.

راحةُ الرّوح وسُلوَانُها هي رجا القُربِ من الله وأهلِه، وأنْ يَجودَ ربُّنا على عِبادِه بنفحةٍ من عندِه، نَفحةٌ تُنعِش الأرواحَ وتُخرِجها من شَعواءِ الدّنيا وتلاطُم أمواجِها العاتية، وتَبثُّ شُعاعَ النّور لينعكِسَ على مرآةِ الحقيقةِ ويُجلّي الحقيقَةَ الكُبرى، والدّاعمةَ الأسمى، وهيَ ألّا جسرَ يعبُرُ بنا إليهِ إلّا الحُبّ.

تردّد على مَسمعي من قصائدِ الإمامِ الحدّاد عليه رحمةُ الله تعالى، أنّ للعارِفين سرٌّ وأسرارٌ، دِقاقٌ لطيفةٌ، خبيّةً كالمِسكِ في جيبِ الكُمّ، فوّاحةً سيّاحةً كأرواحِ الخُزامى، شَرابٌ سلسبيلٌ ما إنْ عاقَرتُه حتى ترى حقيقةَ الوجودِ، وغوَاديَ الجود، من الرّبّ المعبودِ جلّ وعلا، ما اشتَعَلَ مسكٌ وعود، أو حطّ السيلُ من جُلمود، وأنشدَ الحادي في صحاري النّود، أنْ يا سيّدي ومولاي، جُد بِوصلِ الجود.

إذا زاحمتَ تُخوم الملائكة، وجاهدتَ في آفاق النّفُوس الُعليّة، باتَ لا يُقلِقكَ إلّا الشّوقُ والحنين، وأنتَ من أنينٍ في أنين، شوقٌ وحنينٌ لله المجيد؟ هذا مِمّا لا جَدَل فيه، فقدْ أبانَ الرّب الحليم في الحديثِ القُدسي أنْ "فبحقّي عليك كُن لي مُحبًّا"، ولكنّ حُبَّه لَك ليسَ قاصِرًا على حِفظِه وإسعادِه لَروحِك؛ بل ويتعدّاه إلى أنْ يُحبِّبَك إليكَ، فُتحِبُّ نفسَك أكثَر؛ لأنّك عندَ الله لستَ بكاسدٍ ولا زهيد، وحُبّكَ لَك يدفعُك أنْ تُحبَّ أهلَ الله وخاصّته، فتَحنُّ للرّوح السّابحة في ملَكوتِ الله، التّائهةِ دونَما جسدٍ يحتضِنُها؛ حينَها ترى الجَمال مُختزَلًا ومجرّدًا من عالِم المادّيات، تقاصَر عن وصفِها الواصفُ، فلا شاعرٌ أدرَكَها أو ناثِرُ.

أمّا إذا لمْ تدنُ يومًا معَ من دَنا، ولم ترنُ الرُّوحُ في سُبُحاتِ الرّنا، فقد آنَ للمكلومِ أنْ يلقى طبيبَه، وأنْ يَشفيَه من تداعيات الهوى، إذْ لَم يعُد في العُمر مُتّسعٌ لمزيدٍ من صريرِ النّفسِ المُشتهية وآفاتِها، ولا لِأسقامِ الرّوحِ ونَزَغاتِها، أقبِل عليه؛ أمّا هذه المرّة، لا مُستجديًا لِأُعطية، أو خائِفًا من عِقاب، أقبِل عليهِ مُحبًّا وراضيًا، آملاً وراجيًا أنْ تعودَ من رِحابِه بنَفسٍ مُطمئنّةٍ زكيّة، حينَها لا بُدَّ أنْ يتراءى من سناها لَك مُحيَّا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.