شعار قسم مدونات

القويُّ الأمين

مدونات - رجل وامرأة

أكتب مدونتي هذه ويفصلني عن السادسة والعشرين عاما أياما معدودة، ربما أكونها بينما أنت تقرأ. الرقم سابق الذكر للفتاة في بلادنا ضربةٌ موجِعةٌ لمن هي دون زواج حتى عمرها هذا، يُفسر على أنّ عريس "اللقطة" لم يطرق الأبواب بحثا عنها، ولكل مفسر ومؤول تعريفه الخاص بالعريس اللقطة، فبعضهم يرجح أن هذا الوصف المبجل لا يُمنح إلا لمن يملك سيارة أو بيتاً مستقلاً عن أهله، ومنهم من يتكرم به على من أنهى درجته الجامعية، ومنهم من ينسبه لشاب طويل عريض تحلم به نصف فتيات الأرض-إن لمن يكن كلهنّ- كما تدعي أمه بعد أن فرزت بيوتا كثيرة تبحث عن فتاة لم تتجاوز العشرين لتكون عروسا تليق بمقام هذا اللقطة.
   
كتجربة شخصية، مررت بمواقف كثيرة ما زالت تتكرر رغبة في معرفة الأسباب التي أودت بي إلى ما أنا عليه، لا يمر شهر من عدّاد عمري إلا وتسألني إحداهنّ: ما الذي يمنعك عن الزواج حتى الآن؟، وبحكم ما مررت به، أمنح صاحبة السؤال شيئا من الوقت لتجيب على سؤالها بناء على ما يخطر ببالها من أفكار ريادية تجعلني أحدق بكلتا عينيّ من هول ما أسمع، فتبدأ خياراتها المتعددة في الإجابة: فإما لم يطرق بابي أحد، وما تلبث ثوانٍ إلا وتنفي إجابتها بنفسها بناء على ما سمعته من صديقة جارتها التي لم تلتق بها منذ زمن أنها أرسلت إلي بواحد وتم رفضه، ثم تأتي بخيار آخر تحاول إقناع نفسها به بأني فور ما أُنهي درجة الماجستير سأتفرغ لهذا الموضوع وحينها لن أجد من يقبل بفتاة تجاوزت العمر الذي سأكون قد تجاوزته، ثم تزيدني من الشعر بيتا فتمْنحني خيارا آخر بأن عملي قد شغلني عن العمل الأساسي لكل بنت في أن تكون ربة بيت " لها فم يأكل لا يتكلم" وأني ولو بلغت القمرَ فمصيري هو ربة بيت تعتني بأطفالها وتهتم بشؤون زوجها. ثم تُنهي مجلسها وسؤالها بجملة واحدة: الزواج قسمة ونصيب.
   

موسى -عليه السلام- الذي سقى للفتاتين هو ذاته الشاب مفتول العضلات "الشهم" في أيامنا هذه، وإن موسى الذي طلب من الفتاة أن تمشي ورائه هو الرجل الخلوق الذي أصبح من ندرة وجوده يلقب ب "شريف مكة"

تُخطب الفتاة في بلادنا بناء على أسس كثر ينتقي منها الأهلُ وأصحابُ الشأنِ ما يناسبهم ويتركون ما يحاولون غض الطرف عنه، ولكيْ لا أظلم أيّ تجربة ليست من شأني سأُتابع في أكثر تجربة أُلمّ بتفاصيلها، فمن يعرفني من باب أني ابنة رجل وامرأة يتم وصفهما بأنهما ينتميان إلى الدين أولا ثم إلى أمور أخرى ثانية ويعرف عني القليل من هذا الباب فيظن أني أنتظر شريف مكة أو إمام الأزهر، فإذا ما تقدم شبيه لهذا الوصف وتم رفضه بدت علامات الاستفهام والتعجب على الأوجه، ومن يعرفني من باب ما أتعلم وأعمل وأقرأ وأكتب فيظن أني أنتظر سيبويه أو ابن الهيثم أو أي قريب لهما، فإذا ما تقدم صاحب علم وثقافة وتم رفضه بدت علامات الشك تنتقل من فم لآخر. وتطبيقا لخاصية الانتشار، فإنه كلما زاد عدد الأفواه التي تنقلُ الكلام، زادت الكلمات ذاتها، كفريقٍ تعاون على تأليف قصة والفائزُ من يأتي بالحبكة التي لم يأتِ بها أحد قبله.
   
ولأنّ الله أرسل القرآن إلينا لنحيا به لا لنُزينَ به مجالسنا شأنه شأن أي قطعة زينة، فتتلخص أجوبة الشكوك والأسئلة سابقة الذكر في آية واحدة من الذكر الحكيم: "قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" القارئ لسورة القصص يجد هذه الآية، والقارئ لكتاب الله المتتبع لقصص الأنبياء يجد قصة موسى عليه السلام، يعيش الرحلة التي كُتبت على موسى منذ خلقه خشية فرعون، ثم ما آلت إليه بأن يذهب إليه بقدميه يقاتله وينتصر عليه بمشيئة الله، وما بين البداية والنهاية أحداث كثيرة نقتصر منها على الآية سابقة الذكر.
 
لكل نبي صفاته، وموسى القوي الأمين، الذي فور ما رأى فتاتين تنتظران حتى انتهاء الرجال من السقاية لتسقيا، ذهب فسقى لهما، وحين جاءته إحداهما تمشي على استحياء تخبره رغبة والدها في شكره على ما صنع مع ابنتيه طلب منها أن تسير خلفه خشية أن يُكشف لهُ منها شيء، وحين عُرض عليه الزواج من إحداهما على أن يعمل عند العائلة ثماني سنين وإنْ أتممَ عشرا فالخيار له، أتم العشر.
 
إن موسى -عليه السلام- الذي سقى للفتاتين هو ذاته الشاب مفتول العضلات "الشهم" في أيامنا هذه، وإن موسى الذي طلب من الفتاة أن تمشي ورائه هو الرجل الخلوق الذي أصبح من ندرة وجوده يلقب ب "شريف مكة" أو "إمام الأزهر"، وإن موسى الذي وافق على مدة العمل الاختيارية التي تفوق ما كانت ضمن الاتفاق "أي المهر في يومنا هذا" هو الرجل الذي لا أجد ما يقابله في يومنا هذا. هو موسى بكل ما فيه من قوة وإيمان وعمل وتوكل على الله، هو الذي لأجل صفاته عُرض عليه الزواج ولم يعرضه هو. إن رجلا كموسى عليه السلام، هو الإجابة الشافية لكل شك يبحث عن اليقين، ولكل استفهام ينتظر إجابة قطعية لا خيارات متعددة. هو الذي يُقدم له المهر لا يُطلب منه.

 

-رفعت الأقلام وجفت الصحف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.