شعار قسم مدونات

ابن خلدون العبقري المظلوم في أمته!

مدونات - ابن خلدون
يقول أنولد تونبي "لم يشهد التاريخ في كل العصور وفي كل الأصقاع عبقريا كابن خلدون" في أحد محاضرات الدكتور ابراهيم عدنان والتي كان عنوانها "إطلاق الانحطاط -الجزء 1-"، تحدث الدكتور عن شخص عبقري من حضارتنا الاسلامية تفصلنا عنه ستة قرون، وأطلق عليه لقب "العبقري المظلوم في أمته" وصدق حقا ! لأن من خيبة الأمة الاسلامية أنها لم تكتشف هذا العبقري المسمى عبد الرحمان ابن خلدون (808 هـ)، فالغرب هو من اكتشفه ودرسه تراثه ومخلفاته العلمية الرهيبة، وبعد ذلك نحن صرنا نركض خلف الغرب ندندن ونطنطن احتفالين تمجيديين بابن خلدوننا الذي لم نفهمه أصلا حتى الآن(1).
 
ابن خلدون هو ابن عصر بداية انحطاط الثقافة العربية الإسلامية (القرن 9 هـ / 15 م)، رغم ذلك فقد خرق الحصار وتمرد عليه ومن هنا وجدناه يأتي بتلك الطفرة الكبرى في دراسته الاجتماعية، ولعلني لا اغالي إذا قلت بوجه عام، إن المفكر كلما كان أكثر تحررا من قيود المنطق القديم كان أكثر إبداعا في تفكيره، والواقع أن العلوم الحديثة كلها الطبيعية منها والاجتماعية، لم تستطيع أن تنمو هذا نمو العجيب إلا بعد أن بدأ فرنسيس بيكون بثورته المعروفة على المنطق الارسطي والتراث الفلسفي القديم(2).

أحدث العبقري ابن خلدون ثورة حقيقية على المناهج التقليدية التي تهتم بالدراسات التاريخية والاجتماعية، فا انتقدا المؤرخين ولم يكون نقده نقدا هداما بل كان نقدا بناء يهدم ويأتي بالجديد، حيث جعل من هذا النقد القاعدة التي اتكأ عليها في بناء مفهوم جديد للتاريخ مرتكزا على دعائم قوية وثابتة.

    undefined

  

قبل أن يشير ابن خلدون إلى مفهومه الجديد لتاريخ طرح أولا المفهوم الذي كان سائدا إذا يقول " فإنن فن التأريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشدّ إليها الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذْ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والأول، والسوابق من القرون والدّول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال. وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لهذا أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق" (3).
 
فالتاريخ يرتبط ارتباط عضوي مع فروع المعرفة في العلوم الاجتماعية كما جاء في تعريف ابن خلدون له، أي هناك علاقة تأثير وتأثر، حيث لا يمكن تقديم أي دراسة متكاملة في العلوم الاجتماعية (علم الاجتماع وعلم النفس والعلوم السياسية والاقتصادية..)، بدون التأصيل التاريخي لموضوع الدراسة والمعرفة التاريخية لم تعد تلك المعرفة التي تعتمد فقط على السرد كما كانت عليه في العهود القديمة، فالمعرفة التاريخية هي تلك المعرفة التكاملية التي تجمع بين مجموعة من العلوم والمعارف في عدة تخصصات لتقديم منتج علمي معرفي ذو جودة عالية، والهدف من محاولة الجمع بين العلوم الاجتماعية والتاريخ هو تقديم أجوبة شافية لبعض الاسئلة التي حيرة المؤرخ ولم يجد له جواب إلا بمساعدة العلوم الاجتماعية، التي تستطيع تقديم لنا فكرة حول المجتمع المراد دراسته في تلك الحقبة الزمنية من البنية النفسية لفرد ذلك المجتمع والنظام السياسي الذي كان سائد والنظام الاقتصادي الذي كان متبع والظواهر الاجتماعية ( الزواج والطلاق، العنف، البطالة، الجريمة، الاغتصاب، الفقر..).

قطع ابن خلدون مع التاريخ التقليدي الذي يهتم بدراسة سيرِ الأفراد والفئات العليا في المجتمع وبنخبة (الملوك، ورجال الدولة، وقادة الثورات) وبالوقائع الحروب والثورات، وبالمؤسسات التي تهيمن عليها النخب ( السياسية، والاقتصادية، والدينية )، فعلى العكس ذلك برز التاريخ الاجتماعي الذي يهتم بكتل ظلت على هامش السلطة، وهو بذلك أحدث ثورة في المنهج وأيضا في الكتابة التاريخية التي كانت عند العرب (السير، الانساب..)، إنه حقا عبقري مظلوم في أمته لم نوفيه حقه، فما يزال أماننا في مجتمعات الحضارة الاسلامية جهد طويل في الاهتمام الرصين والعلمي بتراث هذا العبقري، وتحليله وتطويره في سياق التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تمر بها مجتمعاتنا بما يميزها من سمات ثقافية واجتماعية (4).

_______________________________________________________________________________________________________________________________________________
المراجع:
(1) الدكتور ابراهيم عدنان ، " إطلاق الانحطاط –الجزء 1 – " ، رابط المقال http://www.adnanibrahim.net/إطلاق-الإنحطاط-ج1 .
(2) الدكتور علي الوردي ، " منطق ابن خلدون في ضوء حضارته وشخصيته " ، دار كوفان ، لندن 1994 ، الطبعة 2 ، ص 14 .
(3) عبد الرحمان ابن خلدون ، " المقدمة " ، دار الفكر للطباعة و النشر والتوزيع ، بيروت 2004 ، ص 15 .
(4) محمد الجوهري و محسن يوسف ، " ابن خلدون إنجاز فكري متجدد " ، الاسكندرية ، مصر ، مكتبة الاسكندرية ، 2008 ، ص 6 .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.