شعار قسم مدونات

أسرار مي زيادة

blogs مي زيادة

إنها محاولة لإعادة بناء حياة الكاتبة والشاعرة مي زيادة. بعيدا عما كان يشاع حولها وعمن حولها. المؤلف الأخير للكاتب واسيني الأعرج الحامل لمخطوطات مي زيادة في العصفورية الغابرة في مضى والمكشوفة الآن. يكشف عن معطيات مثيرة لم تكن في الحسبان. تناقلتها الألسن والأجيال. وبعد مرور سبعين سنة عن وفاة النابغة الأدبية ها هي توضح ما كان خفيا.

فقدت ابنة مدينة الناصرة المسيحية الأمل في الحياة في بيروت الكوزموبيلتانية، وزودها القلم بالأمل مرتين في القاهرة المحروسة. أمضت حياة حالكة أنارتها صفحات الكراسة البيضاء. لم تفارق الكتابة إلا قبل ساعات معدودات من موتها. كانت تكتب بلا هوادة لتداوي نفسها المنتحبة. داعبت القلم بجسد السيدة الشرقية وبفكر غربي مستنير. علقت ثقتها وآمالها على صفحات بيضاء جامدة حين فقدتها في بني البشر. كانت تكتب بشراهة كما تدخن السجائر. أحب أدباء ومثقفو مصر ولبنان فكرها وثقافتها وتفاصيل جسدها وجمالها، النجوى الغرامية كانت تنبثق من كل ركن في حياة الشاعرة والأديبة المصرية-الفلسطينية مي زيادة.

مأساة مثقفة مصر الأولى بدأت عند نهاية عمرها سنة 1941، وهي تخطو خطواتها الأخيرة نحو العالم الآخر. غادرت أرض مصر إلى السماء ومرض الربو يمزق صدرها، سلمت روحها للأعلى وعواطفها مضطرمة تجاه من غادروها وقت الشدة ودون رجعة. التبست الرؤى عند سيدة جميلة الشكل منفتحة الفكر، وغدت فجأة، شيخة متهالكة الملامح، شاحبة المحيا المنهك بالمرض، في فترة من مزهرة من حياة المرأة. تلون عالمها الوردي الموسوم بالحرية والانفتاح بعالم آخر حالك، مقيح، متأجج بالجنون، والحيرة والتيه.

عشقها العقاد وألهمته في رائعته "سارة". وعملاق الفكر الأدبي أصابته الغيرة عليها من عدوه في الحب ومخالفه في المدارس الأدبية الشاعر اللبناني جبران خليل جبران

المرض النفسي والجسدي لقنها الويلات منذ دخولها لمستشفى العصفورية ببيروت. رماها حبيبها الأبدي وآبن عمها "جوزيف" بالحمق والجنون لتستقر في أبشع مكان، مستشفى المجانين. استغل ضعفها وتهلهلها النفسي بسبب أزمة فقدانها لأبيها اللبناني الحنون عليها. وازداد كربها بوفاة أمها الفلسطينية، واشتد أكثر وانهارت حتى فقدت أعصابها بموت عزيزها وأخيها جبران خليل جبران.

لم تعرف بم ابتليت وكيف أضحت بلمح البصر مجنونة، ومسجونة في العصفورية. بعدما كانت تلقيي المحاضرات في الجامعة الأمريكية ببيروت والقاهرة، وتستقبل في صالونها الثقافي بالقاهرة كل يوم ثلاثاء ثلة من المثقفين والأدباء. مكان خلقته لتجسير روابط العلم والأدب والفكر بين مرتاديه.

عشقها العقاد وألهمته في رائعته "سارة". عملاق الفكر الأدبي أصابته الغيرة عليها من عدوه في الحب ومخالفه في المدارس الأدبية الشاعر اللبناني جبران خليل جبران. تبادل رسائل الحب بين مي وجبران أشعل الحمية في قلب العقاد، وكم من مرة انتقده في شخصه وفي أعماله أمام أعين مي. تغنى بأيقونة الشرق شعراء اختلفت مشاربهم وتوجهاتهم من ولي الدين يكن مرورا بحافظ إبراهيم إلى أحمد شوقي ومصطفى صادق الرافعي وأدباء كأنطون الجميل عاشق مي في الخفاء، وسلامة موسى المتيم بها، حركاته تجاهها كانت تحمل في طياتها الكثير من المعاني، وشيوخ كمصطفى عبد الرازق، لم يفصح عن حبه لها لقلة شجاعته وحياءه وخوفه على منصبه كشيخ من شيوخ الأزهر.

لقبها مصطفى عبد الرزاق بأميرة النهضة الشرقية، وشكيب أرسلان بنادرة الدهر، وفارس الخوري بأميرة البيان، والأب أنسطاس الكرملي بحيلة الزمان. ألقاب عديدة ومتعددة غابت لحظة الضنك والخصاص، جعلت من قلب مي يتهاوى، تحطم فؤادها وأنهكه الفراق والفقدان والسجن والواقع المر، والحنين إلى الحياة من جديد. حياتها وهي في الدير تتلقى تربية دينية أرثوذوكسية صيرتها تخشى من جسدها دون أن تخشى عليه. تعليم ديني ضيق على أفق تفكيرها وحصر رغبتها في التحرر والانعتاق. بيد أنها وحتى لحظات حياتها الأخيرة تشبثت بدينها، كان صوت يسوع المسيح يتردد في أذنها، يتسرب إلى داخلها، لحظات الموت البشع وهي لوحدها اقتربت.

بزغت في زمن رجالي بامتياز. وشاطرتهم لفيفا من أفكارهم، وعارضاتهم مرات أخرى. حققت شهرة واسعة لم تدم إلا قليلا، أحرزت للمرأة الشرقية تقدما في الساحة الأدبية لم يكن ممكنا لولا كتاباتها. شقت طريقها أولا بالكتابة تحت اسم لاتيني مستعار يدعى "إيزيس كوبيا"، كان خلاصها والحل الوحيد لتفادي الجلبة. لتكتب وتنشر في زمن لم يألف المجتمع الشرقي أن تتبدى المرأة للعالم. بإصرارها وتعنتها في وجه الأعراف والتقاليد، أصدرت باسمها المستعار أول ديوان شعري باللغة الفرنسية بعنوان fleurs de rêves. تمكنت من اللغة الفرنسية جيدا في مرحلة الابتدائي بمدرسة الراهبات اليوسفيات بالناصرة، كانت تحب الكتابة بها، والحديث بها مع حبيبها وجارحها جوزيف. قبل تعلم اللغة العربية كانت تتنفس لغة موليير. روافد ثقافتها الواسعة تعزا إلى إتقانها لتسع لغات أجنبية إضافية، في كل من داخلية عينطورة بجبل لبنان، وبعدها مدرسة الراهبات اللعزاريات.

كانت عاشقة للموسيقى والمعزوفات، لشوبان، موزارت، أتقنت معزوفاتهم وهي في مدرسة عينطورة، هذه المدرسة أثرت فيها جسدا ونفسا، تعرضت وهي صغيرة للتحرش من طرف أخت كبرى بالمدرسة، لم تكن تدري شيئا بما كان يحدث معها، كانت صغيرة غير مدركة لما يدور حولها. وجدت متعة غامرة فيما حرى لها وهي طفلة، تذكرته دائما حتى وهي تتقدم في السن، لم تستطع التوقف في الأخت الكبيرة إلا بعد مرور زمن. 

كتبت حتى الرمق الأخير، خارت قواها، بدت أصوات أمها ويسوع المسيح تناديها. توفيت ولا أحد حولها سوى طبيبها محمود وممرضة
كتبت حتى الرمق الأخير، خارت قواها، بدت أصوات أمها ويسوع المسيح تناديها. توفيت ولا أحد حولها سوى طبيبها محمود وممرضة
 

منذ ولادتها سنة 1886 بالناصرة وهي روح عائلة زيادة. أحاط بها أهلها وشخصيات مرموقة سياسية ومثقفة حتى دخولها إلى مستشفى العصفورية. انقلبت حياتها رأسا على عقب، لم تعد الجماهير ملتفة حولها، طعنها أهلها وأصدقائها وصدقوا أنها مجنونة. حيلة صغيرة من العائلة للاستيلاء على ثرتها كللت بالنجاح والكل صدقها.

 

تركت في غرفة باردة جدا، الشجن يلفها من كل جانب، لم يكلف أحد نفسه تعب زيارتها، الاطمئنان عليها، مساعدتها، سماعها، إمساك راحتيها بحب وعناقها. كلهم تركوا مي للمجهول، تركوا من حاربت من أجل المرأة بدون معيل ودون سند. الأديب والمفكر أمين ريحاني هو من أنقذها رفقة بعض العائلات الشامية المعروفة من جحيم العصفورية. هزل جسدها، طعنت في السن لسنوات وهي في العصفورية لأسابيع. لم تتقبل ذلك الوضع وهي من ألفت الحرية.

بعد خروجها من العصفورية بشق الأنفس، رحلت نحو القاهرة لتكمل ما تبقى من حياتها، استأجرت بيتا صغيرا، الرطوبة والغبار من كل جانب، كان هذا يؤذي صدرها المريض لكنها قاومت، فكل مالها أخذه ابن عمها جوزيف. عاشت هناك في مدينة الثقافة، لكنها أغلقت على نفسها، لم تشأ أن تخرج للعلن وترى من تخلوا عنها، موقف قاس في ظرف أقسى اتخذته مي. انعزلت عن تاريخها وعن أمة كانت في أمس الحاجة لها، لكن هذه الأمة تركتها في أول محنة، لم تكترث لمثقفة مصر الأولى، بل هاجمتها الجرائد ونعتتها بالحمق، لم تتحمل مي هذا، كانت انتكاسة عميقة، وجرحا غائرا في جوفها.

كتبت حتى الرمق الأخير، خارت قواها، بدت أصوات أمها ويسوع المسيح تناديها. توفيت ولا أحد حولها سوى طبيبها محمود وممرضة. دفنت وحولها ثلاث أشخاص في يوم خريف ممطر، خليل مطران وأنطوان الجميل ولطفي السيد ودعوها في لحظة تخلى عنها الجميع، أهلها وحبيبها، لكن لم يتخلى عنها الموت. كانت تخافه بشدة، أدركت ذلك حين حاولت الانتحار أكثر من مرة، تربيتها الدينية لم تسمح لها بذلك وخوفها من العالم الآخر. فقد العرب ذرة ثقافية فريدة في ريعان شبابها بحيلة صغيرة. مي زيادة، ضاعت إلى الأبد دون رجعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.