شعار قسم مدونات

هل حان الوقت لنشر التعددية اللغوية؟

blogs تعلم اللغات

رفعت التطورات الحالية أهمية التعددية اللغوية والمواطنة الدولية في عصرنا وجعلت كل العالم مترابطاً ومتشابكاً يوماً وراء يوم فنحن نشهد حذف المسافات بشكل تدريجي، كما أننا نرى سرعة التطور التكنولوجي بحيث تتعزز الصلات الوثيقة بين الأفراد والمنظمات الدولية والدول بذاتها. من الجدير بالذكر أن اللغة إحدى أهم العناصر التي تشكل هوية الأفراد وعبارة عن أداة تلعب دوراً عظيماً. وفوق كل ذلك هي تمنح المواطن فرصة للتعرف على الثقافات والحضارات غير المعروفة له وفهمها والتعمق فيها بشكل أفضل ويفتح له الباب نحو المجتمع الدولي كما أنه يمهد له الطريق إلى المواطنة الدولية. إن اللغة تفتح لنا الفضاء الواسع للتواصل مع الشعوب الأخرى فبإمكانها أن تزيل الفوارق العرقية والدينية والعنصرية والفكرية. بالإضافة إلى ذلك أعتقد أن التعددية اللغوية لا تساعدنا في إجراء الحوار فحسب بل لا تبالي الفوارق التي كانت تسبب الفصل بين المجتمعات في الماضي.

في خضم ذلك أريد أن أذكر الأمر الذي يرافقني منذ طفولتي: لدينا المثل المعروف في جورجيا الذي يعكس دور التعددية اللغوية بوضوح "عدد اللغات التي تعرفها يساوي عدد مواطناتك"، فأتذكر منذ صغري عندما لم يكن يفوت على جدتي أن تذكّرني بهذا المثل فمن خلالها تمكنت أن تشجعني على دراسة اللغات كالإنجليزية والروسية وتشرح لي أهمية اللغات الأجنبية التي فبعدما تربيت وعيت بأن تعلم اللغة الأجنبية يجعل الشخص يتعرف على جوانب الثقافة للناطقين بهذه اللغة ويحصل على الأشياء التي سيستفيد منها. هكذا ومنذ تلك الأيام يلعب الموقف المذكور دوراً حاسماً في حبي للغات الأجنبية حتى اليوم ولذا أجد التعرف إلى الأجانب ممتعاً. 

بعد السنوات العديدة التحقت بكلية العلاقات الدولية واخترت قسم الدراسات الشرقية. وهكذا صعدت على المرحلة الجديدة لحياتي فبدأت مغامرتي مع اللغة العربية وثقافتها. بالإضافة إلى ذلك فإن دخولي الجامعة أتاح لي الزمن الفرص الكثيرة للتواصل مع الناس من الثقافات الأخرى وخاصة العربية. الرسالة التي استخرجت أرغب في إيصالها هي أن اللغة العربية لم تسمح لي بأن أتواصل مع الناطقين بها فحسب بل ساعدتني كثيراً في تغلب على الحواجز والفوارق الثقافية والفكرية التي يواجهها الغالبية بسبب الصور النمطية المهيمنة. مع ذلك أتأكد كل مرة من أن اللغة لها قدرة كبيرة على ربط الأقوام والأفراد من كل أنحاء العالم وتؤيد التعددية الثقافية والمواطنة الدولية. مع مرور الزمن أدركت أن التعددية اللغوية تأتي بالفوائد العدة فعلى سبيل المثال هي تستطيع جمع الأفراد وجعلهم يتحاورون ويناقشون ويتبادلون أراءهم ويحلون القضايا المطروحة ويساهمون في تحقيق السلام والرفاهية والاستقرار على كوكبنا. بالنظر إلى ما ذكرت فأريد أن أشارك تجربتي التي وجدتها نافعة قد تثبت أهمية التعددية اللغوية.

 

القرن الحادي والعشرون يتطلب منا تفاهما ثقافيا وتربية المواطنين الدوليين الذين أولاً سيساهمون في نشر فكرة التفاهم والتسامح وثانياً في بناء الصلات الجديدة بحيث ينشأ التعاون الدولي

الأمر يتعلق بقضية اللاجئين التي لم تظهر منذ بعيد فأعتقد أنها تطلب منا توفير النازحين بالاحتياجات البسيطة وغير البسيطة كي تتسهل الحياة في مجتمعات أجنبية لهم ويوصلوا رسالتهم إليه ويفيدوها. فلهذا تكثفت الجهود من قبل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي تتعاون مع بعضها البعض في تنظيم وتنفيذ الفعاليات العديدة لصالح اللاجئين فيفرحني أنني صاحب الفضل أن أشارك في إحدى هذه البرامج وأساهم لمصلحة المهاجرين العرب الذين استقروا في جورجيا ففي عام 2015 أعلنت شركة الأبحاث الاجتماعية عن وظائفها الشاغرة المعينة للطلاب العارفين اللغة العربية فانضممت بهذه الشركة حيث كنت أقيم المقابلات الصحفية مع اللاجئين والأشخاص ذوي الوضع الإنساني وذلك في إطار التعاون مع وزارة شؤون اللاجئين في جورجيا.

 

في تلك الفترة تعاملت مع كثير من المجيبين العرب واكتشفت أن معظمهم كانوا يشعرون بالغربة إذ لم يعرفوا اللغة الجورجية فقررت ألا أقصر المقابلات على العمل الرسمي فصادقت هؤلاء الناس وأحافظ على العلاقات معهم حتى الآن. رأيت بنفسي كيف تجاوزنا اختلافات من وراء اللغة وشهدت كيف انفتاح المهاجرين حينما تحدثت معهم بلغتهم الأم. تجربتي الثانية أود أن أشاركها معكم مليئة بذكريات لا تنسى وهي مرتبطة بمصر حيث كنت أدرس اللغة العربية لمدة سنة. طيلة تلك الفترة كان المحاضرون يدعمونني ويساعدونني في تعلم اللغة ويجعلونني أنحاز للأنشطة المتنوعة وأتعمق في الثقافة المحلية التي كنت أعيش فيها. وإلى جانب هذا فلم أقتصر على الدورة التعليمية وبذلت جهوداً أن أصبح جزءً لليومية المصرية عن طرق عدة من حيث التجول في شوارع وأزقة القاهرة والكلام مع الناس عن المواضيع المختلفة.

 

في البداية واجهت بعض الصعوبة، علماً أن اللغة الفصحى تختلف عن اللغة العامية كان فهم الكلمات الدارجة صعباً ولكنني تعودت على اللغة العامية بفضل المحليين. فحصلت على الفرصة ألا ألقى المصريين فحسب إنما العرب من الدول الأخرى مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن. كان كل يوم ذو مغامرة جديدة فمن يوم إلى يوم كنت أعثر على العناصر الثقافية التي لم أعرف عنها من قبل. على سبيل المثال بعد وصولي إلى مصر اكتشفت أن المصريين لهم اللقب الخاص بهم "مصري" الذي يصفون به الأجانب ذوي المعرفة الثقافية الدقيقة. عندما أتذكر تلك الفترة والتجربة أتأكد أن الوطن العربي متنوع للغاية وحافل بالمغامرات الجديدة.

القرن الحادي والعشرون يتطلب منا تفاهما ثقافيا وتربية المواطنين الدوليين الذين أولاً سيساهمون في نشر فكرة التفاهم والتسامح وثانياً في بناء الصلات الجديدة بحيث ينشأ التعاون الدولي سواء كان على درجة الأفراد أم الدول أم المنظمات أم المؤسسات. من الجهة الأخرى بما أن سلسلة الشبكات تتوطد وتتوسع ففي هذه الأيام يستعصي علينا أن نتطور دون شبكات العلاقات تلك اعتماداً على أنفسنا فقط. السبب؟ إمكانيات الحصول على المعلومات والمعارف والخبرة التي يمكن الاستفادة منها وتطبيقها لمجتمعاتنا وبهذه الطريقة أثق بأننا سنحل التحديات الداخلية والعالمية كما أن الأرض ستصل إلى أحسن مستوى من الاستقرار والرفاهية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.