شعار قسم مدونات

ماذا تعلّمت من الغربة؟

مدونات - الغربة سيدة تجلس تنظر
نحيا في عالم "كَريشَةٍ في مَهَبّ الرّيحِ ساقِطَةٍ.. لا تَسْتَقِرّ على حالٍ منَ القَلَقِ"، ويكاد يكون كل من على وجه هذه البسيطة قد ذاق طعم الاغتراب ولو من طرف خفي غير ذاك الذي اعتدنا عليه، فلعلّك كنت غريبا في وطنك، غريبا وسط أهلك ومحبيك، غريبا حتى عن ذاتك، أو ربما رمت بك الأقدار -مُجبرا أو مُخيّرا- إلى بقعة ما في شرق العالم أو غربه، حيث تقاسي غربة الشكل والطبع واللسان، وقد كنت أنا واحدة ممّن مرّ بمزيج فريد من الغربة اعتمل في نفسي ولقّنني دروسا شتّى ملأى بالعِبَر، منها:

 

في معنى الغربة

كوني وُلدت في بلاد ليست بلادي، وقضيت جُلّ عمري في غربة، فلقد ترعرت وشعور الغربة ينمو معي، ويلازمني شعور الحنين إلى "وطني"، بمعناه الجميل الذي صوّرته في ذهني وقلبي، عشت أعواما أتوق إلى أن تستريح ركابي في رحابه، وما أن صار الحلم حقيقة حتى ارتدّت سهام كل تلك المعاني الساذجة التي كان يظن المرء أنها درعه وأمانه إلى صدري، فكنت كمن أوى إلى كهفٍ بقصد الحماية؛ فإذا بصخوره تنهار فوق رأسه.

 
حينها عشت معنى آخر للغربة في وطني، وكان أشد قسوة ومرارة من غربتي خارج حدوده، إذ كنت من قبل أتسلى بأوهامي وخيالاتي التي بنيتها له على أمل أن تتحقق ذات يوم، أَمَا وقد ذُبحت الآمال بسكين الواقع.. فبمَ يتصبر المرء؟ وكيف يخدع نفسه ليستمر في حياة الاغتراب هذه؟
 

معجزة المكان السحري الذي سيجعل منك شخصا أفضل هي وهم محض، فأنا وأنت نعلم أن زمن المعجزات قد ولّى، وهذا لا يعني أن البيئة لا تلعب دورا في حياتنا، بل إنها عامل محوري

بعد تجاوز الصدمة الأولى صارت كل المعاني باهتة، وضاع الحد الفاصل بين الغربة والوطن، وكان السؤال الأزلي الذي يواجهه كل عائد نشأ في مكان غير ذاك المطبوع على جواز سفره: أيهما أفضل/تحب: بلدك أم تلك التي نشأت فيها؟ لم أكن أملك جوابا واضحا لسؤال بلا معنى كهذا، إذ ماذا تُمثّل لي بلدي سوى جنسية منحتها لي حدود سايكس بيكو؟ ما الذي يربطني بمكان لم أعش فيه سوى أيام معدودات أختلسها من إجازة كل عام، وحصيلتي منه هي هوية ورثتها عن أهلي كونها موطن نشأتهم فأكسبتني معها لهجة وعادات وتقاليد؟

 

وماذا تعني لي تلك البلاد التي وُلدت وقضيت فيها ثلاثة أرباع عمري لكنني لم أشعر فيها سوى بالغربة، وكل ما يربطني بها وجدانيا ذكرياتي وصباي اللذان عشتهما دون انتماء أو حب لهذه البلاد؟ كيف يختار/يحب المرء بعد أن صار مسخا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؟ ومن غربة إلى غربة ثالثة ليست كسابقتيها، وإن تقاطعت معهما، إلا أن وهج التجربة وألق الحياة كان يتلألأ فيها عن بُعد، هناك، أدركت معنى الغربة الحق، وتحررت من معنى الوطن الضيق، وآمنت أن "فَقْد الأحبة غربة"، وأن الوطن حيث تجتمع بمن تحب، وهذه الحدود المرسومة على الخريطة ستبقى حبرا على ورق لا معنى له.

"ففِي كلّ يومٍ لي حنينٌ مجددٌ
وفِي كلّ أرْضٍ لي حَبيبٌ مُفارِقُ"

قبل وبعد

مراقبة النفس شاقة، ولا يكاد يلحظ أحدنا ما يطرأ على حاله من تغيير في كل تجربة يخوضها إلا بعد اكتمالها أو مُضيها، أما وهو في قلب المعركة فإنه يكون منشغلا بالنجاة أكثر من انتباهه لما يتلقاه من ضربات في ظل انغماسه في الحرب، فلا يدرك ندوبه إلا بعد أن تلتئم الجراح. لا شيء يعود كما كان، ولا شيء يبقى على حاله، على هذا تنص نواميس هذه الحياة، كذلك أنت، لن تبقى كما كنت قبل خوضك غمار تجربة ما، وإن بدا لك ظاهرا أن كل شيء كما هو، وإن عدت إلى ذات المكان الذي كنت فيه، إذ ثمة شيء ما اختل في توازنك، وما عدت قادرا على الاستمرار من حيث كنت، والنتيجة: عالق أنت في منتصف الطريق، تبحث عن تجربة أخرى ترمي بك إلى جنة أو نار، هربا من لعنة الأعراف التي تُلازمك دائما وأبدا.

أنت هو المعجزة

 

undefined

 

معجزة المكان السحري الذي سيجعل منك شخصا أفضل هي وهم محض، فأنا وأنت نعلم أن زمن المعجزات قد ولّى، وهذا لا يعني أن البيئة لا تلعب دورا في حياتنا، بل إنها عامل محوري، وقد تكون مُحفّزة نابضة بالحياة أو مُثبّطة خانقة مُميتة، لكن أنت هو من يملك زمام الاختيار ويحدد كيف سيتفاعل معها، أنت من ستوظفها في معالجة عيوبك عازمًا على التغيير كي تنال ما ترجو، أما أن تتكئ عليها دون أن تحرك ساكنا، فأنت ستبقى أنت حيثما حللت، لكن إن كنت تبحث عن معجزة قابلة للتحقق؛ فأنت -بحول الله وقوته- هو المعجزة، إذ "لا تتم فائدة الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ إلا إذا انتقلت النفس من شعورٍ إلى شعور، فإذا سافر معك الهم فأنت مقيمٌ لم تبرح" كما قال الرافعي.


مِرآة صادقة

الغربة ساحة خلوة، وفيها تنكشف لك الحُجب عن ذاتك بعيدا عن المبررات الخادعة التي كنت تُعلّق عليها أخطاءك ليهدأ وخز ضميرك، فهي مرآة صادقة تنعكس فيها عيوبك ومواطن ضعفك، تمنحك فسحة لمواجهتك بك دون تملص، تجرّدك من كل زيف أحاط بك، وفي الوقت نفسه تستفز قواك الكامنة التي لم تكن على علم بها، وتُهديك مزاياك التي كنت غافلا عنها، تُخرج لك المنح من قلب المحن، والعطايا من بين ثنايا البلايا، تغور في أعماقك لتجلو عنك صدأ معرفتك بنفسك، فتتجدد وتولد على يديها.

 

مسؤولية الحرية

من هِبَات الغربة أنها تمنحك الحرية، لكنّها مقابل ذلك تُحمّلك مسؤوليتها، فتمتحن ما تعتنقه من مبادئ وقيم، تفتح لك الأبواب على مصراعيها، وعليك أنت أن تتخيرّ سبيلا ترتضيه، قد تضيع في متاهتها اغترارا بزخرفها، وقد تبني بينك وبينها سدا من فرط الجُبن، وقد يغلب خوفك من عواقبها رغبتك في خوض مغامرتها، وربما تدرك أن خير الأمور يكمن في أن تكون شجاعا باعتدال، وتتحرر من أسر العادة، وألاّ تكبّل روحك بقيود معنوية تُعيقك عن الاستغراق في التجربة وتحصيل فوائدها، إذ "ويفوزُ باللذاتِ كلُّ مغامر.. ويموتُ بالحسراتِ كلُّ جبان!".

 

أخيرا، استخلاص التجارب وأثرها فينا مختلف باختلاف بصمات أصابعنا، وهو خاضع لمتغيّرات حيواتنا، وكل امرئ يتعاطى مع تجربته الذاتية بحسب ما يُتاح له، وربما كان أثمن زاد نحصّله من رحلاتنا في مسيرة أعمارنا هو ما استقر في نفوسنا من معانٍ أسمى من أن تُختزل في بضع كلمات، كأن نستحضر في كل حِلٍّ وترحال أننا في رحلتنا الكبرى نعيش غربة دائمة، وإن كان من صميم فطرتنا النزوع نحو التعلّق بالإنسان والارتباط بالمكان، فليكن هذا حنينا إلى موطننا الأبدي، فالدنيا سجن المؤمن، ومهما أَحَبَّ فإنه مفارق، وهكذا تمضي بنا الحياة من غربة إلى غربة مُستعينين بالله راجين أن نصل إلى دار المُقامة برحمته وفضله لا بأعمالنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.