شعار قسم مدونات

عندما يطير الدخان!

مدونات - تلفزيون

الحفاوة التي يحظى بها التافهون جسدها أنطون تشيخوف في قصة على لسان مهندس مغمور يقول: أنشأت منذ سنوات قنطرة عظيمة ببلدة ما، وأقيم احتفال صاخب لافتتاح القنطرة، وألقيت الخطب الرنانة والشعارات الطنانة، وجلست متحفزًا أنتظر أن ينادى عليَّ وأكرَّم، وأتخيل الأبصار ممتدةً نحوي، والأعناقَ متطاولة إليَّ. الواقع أنني لو علمت الغيب لأرحت بالي من كلِّ هذا العناء والقلق؛ فقد احتشدت الجموع وظلت تتابع كل شيءٍ غيري.

ثم شوهدت حركة غير عادية في الجمهور، وسادت حالة من الهرج والمرج، وتهامس الناس من حولي؛ فاستيقظ في نفسي الهاجس الأول، وظننت أنهم قد علموا أمري وسيحيطونني بهالة من المديح والإطراء، لكنني عرفت بعد وهلة أن سبب هذا الاضطراب ظهور ممثلة تافهة محدودة الطاقة، تتبعها حاشية من أسرى الغرام، تشق عباب الجمهور كالباخرة المزدانة، ووراءها الزوارق والعوامات، والسفهاء الغافلون يشيعونها بألحاظ الصبابة والهيام.

وانتهى الحفل، وخرجت الصحف تتحدث عن المهرجان، وحضور صاحب الفخامة محافظ المدينة، وطائفة من كبار الموظفين، وكان من بين الحضور الممثلة ذائعة الصيت وقرَّة الأعين، تختال بين الصفوف في حلة أرجوانية موشاة، تكاد من فرط حسنها تأكل القلوب وتشربها الضمائر، أما أنا المهندس فعليَّ العفاء، وفي سبيل الشيطان ما قدمت، وإلى جهنم وبئس المصير".

التمعت هذه القصة في خاطري حين سألني صديقي: هل شاهدت برنامج أمس؟ فقلت له: أي برنامج؟ قال: ذلك الذي استضاف أحد الكوميديانات! لم أرد ربما لأنني لا أتابع هذه النوعية من السخافات، أو لأن صديقي يعلم الإجابة ولكنه يستدرجني! واصل صديقي أسئلته دون انقطاع: هل تتوقع أنه ساذج؟ أم أنه يتعمد الظهور بمظهر الأبله الأحمق لينال قسطًا من الشهرة؟ هل تذكر أن الفنان الذي ذاع صيته لأنه كان يستخدم نفس الأسلوب؟ أتتفق معي في أن الترهات موضة؟ لماذا يلوذ المثقفون بالصمت إزاء تصدُّر هؤلاء الفارغون الساحة؟! أمطرني صديقي بوابل من الأسئلة، وآثرتُ الصمت.

سياسة الشجب والإدانة لم تنفعنا في السياسة، واستعارتها إلى الحياة الاجتماعية تعني إصرارنا على الفشل؛ فلنطرح الشجب والإدانة جانبًا ولنصنع النموذج القدوة، وعندها ستنزوي النماذج السخيفة

الناس أذكى من أن تُخدع، وقد يطير الدخان لكنه سريع الاختفاء؛ فإن وجد الجمهور البديل الأفضل لفظوا السخيف وسحقوه بأقدامهم. ليس من الحكمة أن نجلد الناس بألسنتنا، ولا أن نترحم على تدني الذوق العام وانحطاط الثقافة، إنما دورنا أن نخلق جوًا من التوازن بين السفاهات والمحتوى الإعلامي القوي. عندما يرى الناس وجوهًا إعلامية تحترم تفكير المجتمع؛ فإن المساحة المتاحة للبرامج غير المفيدة ستتقزّم وتضمحل وهذا أقوى طريق للحد منها.

كثيرًا ما يشعر الكادحون بالأسى؛ فالمهندس الذي رسم تشيخوف قصته كان أجدر بالتكريم، لكن الأضواء سُرقت من تحت قدميه لصالح المسؤول والممثلة! يتبع ذلك الشعور بالألم النفسي المرير؛ فالتكريم حافز المرء لمواصلة إنجازاته، وتجاهله يغريه بالكسل والزهد في العمل بنشاط، وعندها يخسر المسؤول رونقه، ولا تجد الممثلة من يدفع لحضور حفلاتها وأفلامها. فوعجبًا لمجتمع يكدح أفراده نهارًا ليرموا بأموالهم تحت أقدام التافهين ليلًا! 

لم تفتح القنوات أبوابها لحاملي درجات الدكتوراة وأساتذة الجامعات، في حين تتصدر أخبار البرامج التي لا قيمة لها الجرائد والشاشات! إن تنشئة الأجيال يعتمد في جانبٍ كبير منه على الإعلام، وإعادة عجلة التنمية في مجتمعاتنا وثيقة الصلة بتصحيح مسار الإعلام. تغييب الشباب عما يدور يجري عبر آليات كثيرة منها تلميع السفهاء، وصناعة نجوم من الصدف الرخيص، وعندها ينظر الشاب باستخفاف لمن يقرأ كتابًا أو يجتهد في عمله؛ فللنجاح طريقة أسهل يراها على الشاشات.

ليس لنا أن نلوم المشاهد، ولكن علينا أن نقدم برامج تحترم عقله وفكره، وعندها سيختفي الدخان. إن تشكيل وعي الناشئة وتقديم نماذج يُحتذى بها مهمة الجميع؛ فالأسرة والمدرسة والإعلام يضعون الملامح الرئيسة لتشكيل هذا الوعي، وتقديم النماذج المشرّفة يترتب عليه مستقبل أفضل لأبنائنا ومجتمعاتنا. البكاء على اللبن المسكوب لا يقدم لنا حلًا، في حين الحرص على وجود قدوات يترسم الناشئة والشباب خطاها يعد خطوة عملية مؤثرة وحتمية. سياسة الشجب والإدانة لم تنفعنا في السياسة، واستعارتها إلى الحياة الاجتماعية تعني إصرارنا على الفشل؛ فلنطرح الشجب والإدانة جانبًا ولنصنع النموذج القدوة، وعندها ستنزوي النماذج السخيفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.