شعار قسم مدونات

ما لم أكن أعرفه عن أحمد خالد توفيق

مدونات - أحمد خالد توفيق

إنّ من الناس من لم يزهو نجمهم إلا عند موتهم..
كما هي العادة، دخلتُ إلى حسابي على فيسبوك صبيحة وقتئذ، أُقلِّب في منشوراته، وأتنقّل بين مقالاته، علَّني أجدُ من بينها واحدًا قد ينال إعجابي فأقرأه، أو آخرًا يجتذبُ ناظريَّ فأشاركه. لم يدُم الأمر طويلاً على تلك الحال؛ إذ ظهر أمامي منشورًا لأحد أولائك المثقفين الذين أتابعهم عن كثبٍ يقول فيه بنبرةٍ مأساويةٍ تلمّستُها من سابق معرفتي به وشدة متابعتي لمعظم كتاباته "رحل الذي كان يذكّرنا بالله، رحل رمز الحق والخير والجمال، رحل الجسد النوراني وبقى نوره في قلوبنا… رحل الجميل الجليل النبيل، أحمد خالد توفيق".

 

أحمد خالد توفيق!! أليس هذا هو الروائي الذي لم أقرأ له روايةً واحدة! أليس هذا هو الكاتب الذي تُنشر له مقالات دورية على بعض مواقع التدوين ولم أسعى يومًا لقرائتها أو على الأقل تصفّحها!! كأنّه هو.. لم أتردد حينها لفتح المنشور وقراءة ما كُتب عليه من تعليقاتٍ علّني أجد فيها ما يُصدّق حدسي أو يُكذّبه. فتحتُ المنشور وفي قلبي مزيجًا من المشاعر التي لم أستطع تفنيدها آنذاك.

 
حزنٌ وأسى، صدمةٌ وخوف… كانت هذه أبرز المشاعر التي استطعتُ تفنيدها فيما بعد. حُزنٌ وأسىً على نفسٍ قد ماتت وفارقت الحياة حتى وإن لم أكن أعرفها، وصدمةٌ وخوف من مصيرٍ محتومٍ لم يُفرّق في حتميته بين صغيرٍ أو كبير؛ فلم يكن أحمد خالد توفيق بالكبير الذي يُرتجى موته في مثل سنّه. قرأتُ أبرز ما جال في التعليقات التي اشتملت في معظمها على النعي والدعاء والرثاء وبعض الكلمات المقتبسة من كتابات الكاتب الراحل؛ حتى اجتذبني ذلك التعليق الذي بدا كأنه نال إعجاب الكثيرين ممن هم مثلي وخطف أنظارهم وقلوبهم… تمامًا كما خطف قلبي بالضبط! كان ذلك التعليق مقتبسًا من كلمات الكاتب رحمه الله، والذي يقول في بدايته "فجأة وجدتُ أنني في الأربعين.. الخامسة والأربعين.. ثم سن الخمسين.. هذه أرقام لم أسمع عنها قط ولم أتخيل أنها ممكنة… بدأتُ أشعر بالذعر عندما لاحظتُ أن الباعة يقولون لي يا "حاج" والمراهقون يقولون لي يا "عمو" .. ثم ازداد الأمر سوءًا عندما صار الأولاد المهذبون يقفون لي في وسائل المواصلات كي أجلس مكانهم"..

 

وجدت أن معظم مواقع التواصل قد انقلبت عن بكرة أبيها، كلٌ يبكي ويرثي ويفتقد؛ وبين كل رثاءٍ واقتباس تخرجُ الدرر وتفيض المشاعر وتتحدث الكلمات عن صاحبها لا لشئٍ غير أن صاحبها كما يبدو قد كتبها بصدق

لم أستطع إكمال التعليق، إذ أخذتني ذاكرتي في لحظة من الشرود المعتاد -كما هي طبيعتي الشاردة- إلى ذاك المقال الذي كنت قد كتبتُهُ منذ أكثر من عام. ذاك المقال الذي كنتُ أتحدث فيه عن فترة الشباب التي سرعان ما تنقضي وينقضي معها كل ما تحمله بين ثناياها من من القوة والفتوة. أعودُ لأذكر كلماتي حينها، وقتما قاربتُ الثالثة والعشرين من عمري، وقتما سافرتُ بعقلي إلى ما بعد شبابي هذا، إلى الذي لا مفرَّ منه… إلى العجز والكهولة والضعف!

كان ذلك الهاجس -وما زال- يُؤرّقني ويقلقني لدرجة إصابتي بالقشعريرة لمجرد رؤيتي لعجوزٍ يقف على مقربةٍ مني ينتظر لمن يقوم ويجلسه مكانه في وسائل النقل العام. ربما قد يزداد الأمر سوءًا على أعصابي حينما أرى إحدى جميلات السينما في فترة الستينات أو السبعينات وقد أصبحت تتوارى عن الأنظار بعدما تبدّلت ملامحها وانقضى عنها كلّ ما كان يُميّزها… فدوام الحال من المحال.

 
حينها، لم أستطع أن أُخرج مقالي تمامًا كما كنت أشعر؛ إذ أني أدركتُ أن هناك فارقٌ بين ما نشعر وما نكتب، قد لا يكون الفارق كبيرًا بالتأكيد، ولكنه يظلُّ فارقًا ينهشُ في قلب الكاتب على كل حال… فأحيانًا تعجز أقلامنا عن وصفنا، لنجد أنفسنا في أقلام الآخرين. ربما كان قلم أحمد خالد توفيق أحد تلك الأقلام التي وجدنا فيها أنفسنا، بعد أن عجزت أقلامنا عن وصفها. فقد استطاع -وبكلِّ بساطة- أن ينقل ذلك الشعور ويسطّره في كلماتٍ لم تلبث أن تعبُر إلى القلب في سهولةٍ تامّة. ولعلَّ هذا أبرز ما لاحظتُه في قلمه الذي بدا لي عند موته عن طريق الصدفة…

أنهيتُ قراءة التعليق الذي لم يكن إلا مجرد نفحةً من نفحات الكاتب، وضعوها أسفل المنشور… فما بالكم بالذي لم يوضع؟! بالطبع كان هذا هو السؤال ذاته الذي تساءلَت به نفسي وقتما أنهيت القراءة، ليتراكم على النفس حينها ثلاثة أحزان؛ حزن سماع الموت والفقد من جهة، كطبيعة أي إنسان.. وحزن الغفلة وعدم الاستعداد للموت من جهةٍ أخرى، فقد صدمني موت أحمد خالد توفيق.. وحزن عدم معرفتي بهذا القلم إلا عند موته، فقد كان قلمًا استشعرتُ فيه أن صاحبه صادق، فحُقَّ لمثله أن يُبكى عليه.

 

لم تمرّ هنالك لحظات حتى وجدت أن معظم مواقع التواصل قد انقلبت عن بكرة أبيها، كلٌ يكتب وينعى ويقتبس، كلٌ يبكي ويرثي ويفتقد؛ وبين كل رثاءٍ واقتباس تخرجُ الدرر وتفيض المشاعر وتتحدث الكلمات عن صاحبها لا لشئٍ غير أن صاحبها كما يبدو قد كتبها بصدق. 

  undefined

 

إن معيار صدق الكاتب لا يقاس إلا بتأثير وقع كلماته على القلوب، إن كانت صادقةً فأهلاً، وإن كانت غير ذلك فهي منبوذةٌ لم تُستساغ، حتى وإن غُلِّفت كلماته في أثمن الأوراق، أو طبعت في أرقى المطابع أو كتبت بقلم أشهر الكُتّاب. ولعلّنا نجد في زمن النفاق والتدليس المعاصِرَين كم من الكتب والمقالات التي كُتبت زورًا وبهتانًا، فلم تجد لها مكانًا إلا في محلّات الفلافل، وذلك بعد أن ملَّ منها بائع الكتب الذي لم يجد ثمة من يدفع فيها مليمًا واحدًا ويقرأها. لم يكن قلم أحمد خالد توفيق من ضمن تلك الأقلام التي تقتاتُ على المداهنة أو طمس الحقائق؛ ولهذا حُقَّ لبعض من اعتادوا المداهنة أن يستهجنوا تلك الأعداد التي خرجت لتوديعه في لقطةٍ نبيلةٍ قلَّما تجد مثلها..


أحمد خالد توفيق لم يكن من عداد أولئك الروائيين الذين كوّنت عنهم انطباعي، وأن كتاباته لم تقتصر فقط على الروايات، كما أن رواياته لم يكن لها نفس ذاك الطابع السائد عن باقي الروايات

إذًا، لماذا لم أكن ضمن أولئك المتابعين لقلم أحمد خالد توفيق؟! ربما تكمن الإجابة في تلك الجملة التي افتتحتُ بها مقالتي بأن من الناس من لم يزهو نجمهم إلا عند موتهم؛ إذ أن صيت أحمد خالد توفيق لم يذاع إلا بوصفه كاتبًا للروايات، أو روائيًا، هكذا فقط كنتُ أسمع عنه، أو هكذا كان يُقدَّم أمامي على أقل تقدير… ومعلومٌ أني لست من متابعي الروايات والروائيين، لا لشيء غير أني أنأى بعقلي ووقتي أن أستنفذهما في روايةٍ خياليةٍ من صنع كاتبٍ يسرح بعقلي في عالمٍ وهمي كما لو كنت تشاهد فيلمًا هنديًا ليس لنا فيه من غثٍ ولا سمين. يكفيني ما أحياهُ من واقعٍ هو أقرب للمسرحيات الخيالية التي نشاهدها على شاشة التلفاز؛ فالطالب يُمثِّل أنه يتعلم، والجندي يمثل أنه يجاهد، والقاضي يمثل أنه يعدل، كما أن النصابين يمثلون أنهم أولاد أصول… وهَلُمَّ جرًّا من ذلك يا صديقي!

 

إضافةً إلى أن بعض كتّاب الروايات المعاصرين أصبحوا يبتذلون انتقاء المواضيع التي تتعلق بنزوات الشباب الذين باتوا يبحثون عن إطارٍ أدبيٍ يكفلها لهم بين دفَّتَيْ كتاب، أو تحت غطاءٍ وهميٍ يُدعى الثقافة، وما تلك الثقافة التي يدّعونها عندي إلّا كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً… اللهم إلا بعض الروايات التي تتعلق بالسير الذاتية والمذكرات الشخصية التي كتبها أصحابها من واقع تجربتهم مع الحياة، أو تلك التي أُخذت من العصارة الواقعية لقضايا الناس.

لم تكن قراءة الروايات هي الخيار الأمثل بالنسبة ليّ، حيث أن أولويات الواقع تحتّم علينا غير ذلك، كما لم يكن أحمد خالد توفيق في نظري إلا مجرد كاتب للروايات؛ وعليه فقد باتت فرصة تلاقينا ضئيلة أو تكاد تكون منعدمة… ظلّ الأمر هكذا حتى جاءت وفاته -رحمه الله- في لحظةٍ مفاجئة وغير متوقعة؛ لتكشف لي أن الأمر لم يكن كذلك، وأن أحمد خالد توفيق لم يكن من عداد أولئك الروائيين الذين كوّنت عنهم انطباعي، وأن كتاباته لم تقتصر فقط على الروايات، كما أن رواياته لم يكن لها نفس ذاك الطابع السائد عن باقي الروايات وإن كنت أختلف مع بعض ما فيها كسائر أي عملٍ بشريّ… ولعلّ هذا ما جعل بعض المفكرين الكبار ممن هم ينبذون الروايات وما لها من تأثير جانبيٍّ على الفكر والثقافة ينعونه واصفين إياه بأن من صلحت سريرته، عظمت بين الناس حرمته… وقد كان.

 
كلماتٌ تتحدث عن صاحبها، وسطورٌ تُخبرُ عن كاتبها، وعبارات تأخذك حيث لا يمكنك أن تتوقع.. هناك حيث يَكتب صِدقُ الشعور قبل أن يقطُر الحبر على الورق… لعلَّ هذا ما يرتجيه قلبي، ولعلَّ هذا ما لم أكن أعرفه عن أحمد خالد توفيق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.