شعار قسم مدونات

لاجئ بالوراثة..

مدونات - ختم فلسطيني لاجئ
لقصّ حكاية، أو تأريخ موقف، أو حدث هناك دائمًا طريقتان، الأولى: في الـ 48 هُجِّر الشعب الفلسطينيّ إلى أنحاء العالم وأُفقد الأرض والهُويَّة، ونتج عن ذلك ما يزيد عن 8 مليون لاجئ، منهم ما يقارب 250 ألف يحملون وثائق مصرية. أمَّا الطريقة الثانية، فتحمل 8 ميلون وجه، ولا ضرر من حين لآخر أن تُحكى إحدى هذه الوجوه.

في التسعينيَّات ولد الجيل الثالث للاجئين الفلسطينيِّين في دول المهجر، شخصيًا وُلدت في السعوديَّة، في نجد تحديدًا، بهيئة وملامح عربيِّة صرفة لا تشي بتصنيف. ولكن بقاف شاميَّة، أو مدنيَّة وفق التصنيف الفلسطينيّ، وبمعجم مختلط؛ يحمل ما يشي بقربي من الحدود المصريَّة، وباختلاطي بسوريا، ودائمًا هناك مفردات غزيَّة قحّة. وكلّ هذا يجمعه نبر وتنغيم سعوديّ نجديّ.
 
في التكوين الأوَّل للوعي تشعر أنَّك مختلف، هناك شيء في حياتك أبعد من حدود المحسوس، أسطورة تعرفها بذاكرة جيناتك، وبحكايات أهلك، أسطورة الوطن البعيد المسلوب. هذا الاختلاف تشعر به عندما تصبح دائمًا "الفيل في الغرفة"، وفي حالتي كان هذا يبدأ عندما أتكلم، فملامحي العربيَّة تخدع الرائي ليألف ما يرى، ثمّ عند أوَّل تواصل بشريّ يظهر الفيل الذي ينطق الكلمات بطريقة مختلفة، ومترادفات غريبة. في هذه المرحلة كان معنى لاجئ هو: طفل يتوقف باقي الأطفال عند كلماته لأنَّها مختلفة، ويصرّ هو لسبب أو لآخر أنّ يحتفظ بها كما هي ولا يجاريهم.

في زماننا هذا قست الأوطان على أهلها فاستحالت غربة. لذا، كان منطقيًا جدًا أن ترفض الغربة توطيني؛ مشاعري، سني عمري، ذكرياتي، ونكاتنا المشتركة لم تشفع لي

ثمّ كانت هناك الإقامة، ذلك المفهوم المعقد الذي يدخل معجم اللاجئ من بداية تشكل وعيه، دون أن يفهم تمامًا ماهيَّته، غير أنَّها أهمّ من حياته ذاتها، والحفاظ عليها أصعب من استرداد الوطن الأسطوريّ، وهناك الجواز أو وثيقة السفر، وهي ورقة يُولد بها اللاجئ، ويمكن للآخرين أن يستخرجوها متى أرادوا، أو حتى أن يختار أحدهم أن يعيش عمره كلَّه ويموت دون أن يستخرجها. لقد بلغتُ مرحلة الصبا قبل أن أعلم أن هذا الخيار متاحًا للآخرين، وكان مذهلًا أنَّ أحدهم لا يملك جوازًا وحياته طبيعيَّة جدًا.

بعد ذلك تكون "الفيل في الغرفة" مرادفًا لكلمة أكثر استعمالًا "أجنبيّ"، وهذا يعني أن يطلبوا منك الإقامة في كلّ مرحلة دراسيَّة، وورقة تنقل بين المدن في فترة ما تجعل السفر لـ350 كيلو مجازفةً تتطلَّب الكثير من الدعاء عند كلّ نقطة تفتيش. ثمّ تتطلَّب منك الجامعة جهدًا خرافيًّا في الثانويَّة العامة ليكون هناك احتمالًا ولو بسيطًا أن تدخلها، دون أن تطمح لكليات القمة، ودون أن يكون عندك خيار الآخرين، خيار العودة للدراسة في الوطن، أنت دائمًا بلا خيارات.

في هذه المرحلة معنى لاجئ مختلف، فأنا وُلدت في نجد ولها في قلبي ما لها في قلب الأعرابيَّة التي أنَّت من وجدها بها، هذه البقعة من العالم كانت الوطن الملموس، في مرحلة الصِّبا الأولى ترفض أن تبقى معلقًا بأسطورة، فتبحث عن الملموس، وتشعر أنَّك ربما أقرب إلى ما حوى طفولتك الأولى ومكان بيتك. لذا، كانت الرياض وأنوارها موطنًا آمنًا، أو حاولت بجد ليكون كذلك. ولكن في ذات الوقت لك ذاكرة مختلفة مهما خبَّأتها في أعماقك، ذاكرة من ورق الزيتون والزعتر، لك ثقافة برائحة أخرى.

في هذه المرحلة تدخل المكان بقلب الفيل/ الأجنبيّ، فمهما تجاهلت أنت أو الآخرون ماهيَّتك إلَّا أنَّك تشعر في أعماقك بأنَّك من هناك ومن هنا أيضًا، قريب من الجميع وبعيد عنك الجميع. في الجامعة كنت أنا المعجم العربيّ المشترك، في مجموعة مختلفة من الجنسيات والثقافات كنت أنا نقطة الوصل، أترجم من لهجة إلى أخرى، وأتمّ الحكايات الاجتماعيَّة، وأملأ فراغ القصص التاريخيَّة، إلى الحدّ الذي جعل الآخرين يسألونني عن شكل خرائط بلادهم، أنا التي بلا بلد ولا خريطة ولا قصة تامة.
 
undefined
 
في زماننا هذا قست الأوطان على أهلها فاستحالت غربة. لذا، كان منطقيًا جدًا أن ترفض الغربة توطيني؛ مشاعري، سني عمري، ذكرياتي، ونكاتنا المشتركة لم تشفع لي، مهما حاولت أن أكون من" الضبان صيفًا الدلافين شتاءً" لم أنجح سوى أن أكون "فيلًا في الغرفة". لذا، في سنوات الجامعة الأخيرة ضاقت الرياض علينا جدًا، ومع هذا ظننته دلال حبيب يدري مقامه في قلب محبه، ظننتها عراق السياب، تضيق وتتسع.
 
أنا ولدت مع نهاية الثوار، ونهاية الانتفاضة الأولى في أوَّل التسعينيَّات، حيث خلَّف الثوار أصداء "اليوم يوم الغضب والثورة نار ولهب"، ثم استقر الأمر بطريقة لم أفهمها:

لم لا نعود؟

هناك حرب… ويهود.

لم لا نعود، كيف يعود غيرنا؟

عندهم هوايا، إحنا ما بنقدر ندخل.

ثمّ نشأتُ في الصبا الأوَّل على أصداء الانتفاضة الثانية، ومحمد الدرة، اغتيال أحمد ياسين والرنتيسي رحمهم الله، ونداءات "وين العرب"، وأناشيد عودة ليلى. الحق أنِّي كنت مغرمةً بأناشيد وأهازيج التراث، بالدبكة، بالمطرزات، بالسماقيَّة والرمانيَّة، بصورة غزَّة في عينيّ جدي، وحكايات جدتي عن الدلم.

هدأت الانتفاضة الثانية بطريقة لم أفهمها أيضًا، نحن ببساطة لا يمكن أن نعود، وأنا لا أفهم لماذا، واستحال السؤال إلى أين؟ حتى لو أتيحت لك العودة، إلى أين تعود أيها الغريب الذي لا يعرف عن الوطن إلَّا قصصًا وشوارع آخر عهد أصحابها بها الـ 48. لذا، تركت الوطن الأسطورة في الأعماق، وأنشأت وطننًا من ورق ملموس، حتى جاءت الريح نثرته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.