شعار قسم مدونات

من مذكرات أسير

blogs أسير

في السجن لا تتعرف على ذاتك فقط، بل تصبح قادراً على اكتشاف الآخرين، اكتشاف المبهم فيهم، تكتشف أمزجتهم.. أخلاقهم وحقول الخضرة واليباس.. تمتلك أدوات وتجتاز مساقات ماكنت تحلم أن تجتازها.. السجن يكشف لنا ذاتنا فنرى أشياء لم نكن نراها من قبل ونحس بأمور ما كانت لتخطر على بالنا، ويتكون جنين أقوى من ذاتنا الحقيقية.. ثم لا يلبث حتى يولد بين أيدينا.. نتأمل ملامحه التي تشبهنا وننبهر به ولا نصدق أننا كنا نحمل هكذا جنيناً تلقّح على حين غفلة من السجان!

 
في السجن تعلو قيمة الأشياء التافهة والبسيطة أو التي كنا نظنها كذلك.. حفيف الثياب المنشورة، لمس الباب وفتحه باليد، المشي على التراب، النظر في الأفق بلا جدران تطبق على الأنفاس.. تلبس ما تريد وقتما تريد وبأي لون.. تصحو متى تريد وتنام متى تشاء.. تأكل ما تشتهي وأن وأن وأن.. في السجن لا مكان للاشتهاء ولا للنضارة ولا للحركة فكل شيء آسن ذو رائحة كريهة تشبه رائحة مياه المجاري التي تسير تحت أغطيتنا!

 
تعلمتُ في السجن أن أرفع رأسي ولا أنحني أمام الألم.. تعلمت أن أوقره وأتعلم أبجدياته فلقد وسّع الألم ذاتي.. فكلما اشتدت ريح الألم.. أشتم ريح يوسف! الألم في السجن يمنحنا قوة فوق قوتنا فبالألم تصبح أقوى من الجلاد.. تصبح حراً بعد أن كنت عبداً لذاتك التي تحب اللذة والرفاهية والراحة.. الألم يعيد تشكيلنا.. يجعل رأسك برأس الجلاد.. نِداً له بل وأقوى منه!
   

استسلمت لعملية الخلع والتي كانت تتم بدون بنج ولا مسكنات.. كنت أهوّن على نفسي وأقول وجع ساعة ولا وجع كل ساعة.. وبعد الانتهاء من عملية الخلع تكون قمة الرحمة حبات الأكاموال..

هذه المرة ألم الأسنان.. عندما كنتُ عبداً! أقصد عندما كنت خارج السجن لم أكن أتحمل حتى الرشح لكنني هنا وبعد مرور ستين يوماً على الألم المتواصل صرت حراً!! أطوي الغرفة ذهاباً وإياباً.. أغلق فمي كي لا تنشق عني آهة مكتومة تجرح رفاقي وتحزنهم علي.. أرواد الألم ويراودني.. أراوده كي أغفو قليلاً على حد الحلم، لكن شظايا وجعي أصابت رفاقي النائمين وبدؤوا بالاستيقاظ واحداً تلو الآخر فانثال الصبر على روحي!!
   
الألم يذكرني بأن لي جسداً، ففي السجن تحاول أن تسحق جسدك وتنعتق منه كي لايقدم تنازلات ولاتسويات.. كي تتحرر! في كل ليلة ينادي رفاقي على السجان يخبرونه بآلامي.. يراودني الألم فاستعصم فيقُدُّني من دبر ويكون دليلاً على براءتي وجريمته! يشتعل جوفي سعيراً.. وفي كل ليلة يعدني السجان بأن يوصل الأمر إلى إدارة السجن، والتي بدورها ستوصلني بالطبيب ولكن بلا جدوى!

 

قاب قوسين أو أدنى صرت من الطبيب فقد قدمت طلباً رسمياً لإدارة السجن حتى يتم عرضي على طبيب الأسنان وبتُ أتحرق شوقاً للخلاص.. تجهزتُ للموعد المرتقب والذي جاء بعد شهر فقدت فيه ما يزيد على عشرة كيلو غرامات.. اقتادني السجان في الموعد المحدد… ركبت البوسطة، يداي مقيدتان إلى الخلف، أقدامي مكبلة بالجنازير والبوسطة مليئة بالسجناء المرضى فهذا يفرغ ما في بطنه وذاك يتلوى ألماً!

  undefined

 

أصل إلى المستشفى.. أجلس على الكرسي الخاص وجسدي ينتفض في باحة الألم! يلقي الطبيب نظرة سريعة ولامبالية على أسناني التي تستعر.. أشهق وهو يتناول من الطاولة المخصصة آلة حادة تشبه الكماشة ويقول لي بكل غلظة:
-افتح فمك.
_ماذا تريد أن تفعل؟
_سأخلع لك كل أسنانك.. لا فائدة كلها نخرها السوس!
_أقول وأنا أرتجف كريشة في مهب الريح:
_ ألا يوجد بديل ؟ حشو، تنظيف، سحب عصب، تركيب جسر، معالجة لثة؟
_نحن هنا لكي نخلع فقط.. إما أن تخلع أسنانك وإما أن تقوم فوراً فلا وقت لدي! وإياك أن تطلب الطبيب مرة أخرى وأشار بطرف عينه على السجان كي يأتي ويجرني خارج الغرفة.
أصمت.. أقف.. أفكر ثم أقول له: اخلع وخلصني من هذا العذاب.
 
استسلمت لعملية الخلع والتي كانت تتم بدون بنج ولا مسكنات.. كنت أهوّن على نفسي وأقول وجع ساعة ولا وجع كل ساعة.. الخلع كان يتم على دفعات وبعد الانتهاء من عملية الخلع تكون قمة الرحمة حبات الأكاموال..

 

وهكذا دخلت السجن بـ ٣٢ سِناً وها أنا اليوم بدون أسنان ألبتة.. أنتظر تركيب طقم الأسنان منذ ما يزيد على الثلاثة أشهر وفي هذه الأثناء أفقد عشرة كيلو أخرى من وزني.. تنغرس الأشواك في رأسي فأتكئ على رائعة ربي "ربِّ إنّي قد مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.