شعار قسم مدونات

لا أريد أن أصبح شرطياً

مدونات - شرطي مصر اعتقال
يسأل المعلّم عادةً طلاّب المرحلة الابتدائيّة عن أحلامهم وعن الوظيفة التي يريدون العمل بها عندما يكبرون، وغالبًا ما تكون خلفيّة إجاباتهم مبنيّة على الحسّ الإنساني الفطري فيهم، فهم يريدون أن يصبحوا أطبّاء ليعالجوا المرضى، أو معلّمين ومعلّمات ليعلّموا الآخرين، وعندما يختارون أن يكونوا من أفراد الشّرطة فلأنّهم يريدون أن يحاربوا الأشرار.
 
يرى الأطفال ببراءتهم أنّ وظيفة الشرطي هي الانعكاس الحقيقي للأبطال الخارقين أمثال سوبر مان، باتمان، سبايدر مان وغيرهم. فالشّرطي هو البطل الخارق الذي يقف مع الأخيار ويحميهم ويدافع عنهم أمام الأشرار، والشّرطي -في نظرهم أيضًا- لا يقبل المساومة على ثنائيّة الصّواب والخطأ، فالصّواب بيّن واضح ويجب القيام به مهما كان صعبًا والخطأ واضح كذلك ويجب تجنّبه أو اجتثاثه.
 
تلك مفاهيم جميلة ترسّخت في أذهاننا حين كنّا صغارًا أيضًا، ولقد كانت أمّهاتنا تستخدمن الشّرطي كأداة ضغط حين نخطئ فنسارع إلى تصويب ما فعلناه، وكأنّنا نرى في الشّرطي ميزانًا لا يقبل الاستثناءات والمخالفة.
  
لكن الحقيقة أنّ الكثير من رجال الشرطة ليسوا أبطالًا خارقين، والحقيقة المرّة أنهم ليسوا موظّفين عاديّين أيضًا مثل أولئك الذين يقومون بعملهم بأقلّ الجهد والوقت قبل أن يعودوا إلى منازلهم في المساء. فهم يستخدمون السّلطة التي يظنّون أنّهم يمثّلونها -وهي سلطة القانون- كأداة قمعيّة مسلّطة بكلّ حزم وقسوة على الشّعب. ولو خالفتَني الرّأي فإن والدة الشّاب التونسي عمر العبيدي (19 عامًا) الذي توفّي قبل بضعة أيام. فلقد فقدت ابنها بسبب من يُفترض أن يكون المدافع عنه. فبعد انتهاء إحدى مباريات الدّوري التّونسي الممتاز وأثناء تدافع الجمهور أثناء الخروج ومع حدوث بعض الشّغب بادر الأمن إلى ملاحقة بعض الشّبّان ومنهم عمر؛ الذي حوصر من قبل عناصر الأمن فسقط في مياه وادي مليان، وعندما أشار عمر إليهم بأنه لا يحسن السّباحة ردّ عليه أحدهم "تْعَلِّمْ عُومْ"(بمعنى فلتتعلّم السّباحة) وكان الغرق مآل الشّاب المسكين!
  undefined
 
وتونس ليست الوحيدة في هذا الشّأن، فقد شهدت جارتها المغرب قبل عامين حادثة مماثلة في القسوة والوجع، حين صادرت الجهات الأمنيات أسماكا بحجّة منع صيدها، فاعترض بائعها محسن فكري وحاول الدّفاع عن مصدر قوته. ولمّا لم يجد أذنا مصغية رمى بنفسه على أسماكه التي وضعها الأمن في آلية الإتلاف، فلم يحفل رجل الأمن بذلك بل أمر سائق الشّاحنة بإتلاف الأسماك ومعها محسن فكري قائلًا (طحن مو) أي (اطحن أمّه)، وفي مصر كذلك سجّلت حالة اعتداء رجل أمن على طبيب بشكل سافر لأنّ الأخير رفض منح رجل الأمن تقريرًا طبّيًا مزيفًا بحالة مرضيّة!
 
هذه العقليّة الأمنيّة لدى الكثير من رجال الأمن تغذّيها السّادية النّتنة، والرّؤية الدّيكتاتوريّة بتصوير أفراد الشعب كمسجونين يجب التعامل معهم بالعصا والهراوة، وكأنّ مسافة كبيرة تفصل بين المواطن ورجل الأمن، أو كأنّ كلاّ منهما تربّى وتلقّى تعليمه في بلد مختلف، وذلك ليس صحيحا على الإطلاق.
لماذا يصبح رجل الأمن فجأة معاديا للمواطن؟ فيستخدم كل الوسائل والأدوات القمعية المتاحة لديه للنيل من كرامته ووجوده وراحته وحتى أفراحه! ومتى أصبح كلّ منهما يعيش بمنأى عن الآخر حتى إذا حصلت ثورة أو حتّى مجرّد مسيرة فإنّ رجل الأمن سرعان ما يفكّر بعدد الرّؤوس التي سيحصدها من أبناء وطنه ومدينته دون أن يمنح نفسه القليل من الوقت ليفكّر بالصّواب والخطأ وما يجب أن يفعله وما لا يجب أن يفعله.. كما هو مفترض!؟
 
من الخطأ أن نعمّم بالطبع فنقول أنّ جميع رجال الأمن يعاملون المواطن بتلك الطريقة، فهنالك ربع ممتلىء للكأس لا محالة، ولكن ذلك الرّبع سيتبّخر إذا ما بقيت العقليّة القمعيّة تُغذّى على الفوقيّة والتّسلّط والشّعور بالنّقص، وانخفاض الأجور، واستبداد المسؤول الأعلى وغيرها من العناصر.
إنّ المجتمع وحدةٌ متكاملة تعتمد كلّ فئة فيه على الأخرى، والأمن من أهمّ تلك الفئات بل إنّها صمّام الأمان الذي يمدّ نفسه كجسر بين الشّعب والنّظام، فمن مصلحتنا جميعًأ أن يعود ذلك الجهاز إلى الصّورة التي ينبغي عليه أن يمثّلها، وإلاّ فلن يلومنا أحد إذا أصبحنا نخاف ونتوجّس إن قال أحد أطفالنا بحماسة "أريد ان أصبح شرطيّا حين أكبر".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.